الثورات وصراع الارادات
لا تخلو ثورة من الثورات من وجود صراع إرادات فيها، وغالباً ما يستمر الصراع خلال الثورات لفترة طويلة قبل أن تستقر المجتمعات التي تقع فيها الثورات.
وعندما نقول ثورة فإننا نقصد بها انتفاضة شعب، وحركة جماهير، وعمل جماعي للتغيير وذلك بخلاف الانقلابات العسكرية التي لا توجد بها إرادات شعبية لكونها تحدث داخل المؤسسة العسكرية والتي غالباً ما يكون للدول الخارجية دور فيها.
إن الثورات العربية التي تحدث في المنطقة كشفت عن قوة حقيقية لإرادة الشعوب العربية، وأبرزت قدرتها على التغيير بعدما كان ينظر إليها على أنها شعوب شبه ميتة ولا حراك فيها.
وتتجلى إرادة الشعوب لأول مرة منذ عقود في نجاحها بإسقاط الأنظمة، وخلخلتها، وكسر احتكار السلطة، ورفع سياسات الإذلال التي مورست ضد المجتمعات زمناً طويلاً.
وبالإضافة إلى أن هذه الثورات قد كسرت حواجز الخوف عند الجماهير فهي كذلك أوجدت لديهم أعرافاً جديدة تتعلق بالعمل السياسي طالما كانت غائبة أو مغيبة عنه ردحاً طويلاً من الزمن.
ومن هذه الأعراف التي أفرزتها هذه الثورات تلك الجرأة السياسية التي شهدناها في المحاسبة وعدم التسليم بسهولة بالبدائل المفروضة أو التي يتم ترويجها.
ومنها أيضاً الاستمرارية في تطوير مطالبها وذلك من خلال الارتقاء في المطالب والانتقال فيها من مستوى إلى آخر أعلى منه.
وبما أن الشعوب الثائرة هي شعوب مسلمة فإن الإسلام –وإن كانت شعاراته قد غُيِّبت عن المشهد الثوري- إلا أنه بقي يعمل كقوة كامنة ومحركة للجماهير نحو التغيير ورفض الخنوع والاستسلام للأمر الواقع.
قد يقال إنه بما أن كثيراً من قادة الثوار هم من العلمانيين والوطنيين فالثورة إذاً هي ثورة معادية للإسلام، قد يقال ذلك لكننا نقول إن هذه الثورة هي ملك لكل الجماهير وليس لقادتها فقط، فالذي شارك فيها والذي ساهم في إنجاحها هم عامة الناس، وهم في غالبيتهم من المسلمين المتدينين بالفطرة، ولولاهم لما نجحت الثورات في إسقاط الأنظمة.
إن هذه الجماهير هي التي رضيت بقيادة هؤلاء لم تترض بهم إلا لتحقيق هدف واحد وهو إسقاط الأنظمة، لكنها لم تتفق معهم على إحلال أنظمة غير إسلامية مكان الأنظمة المتساقطة، والدليل على ذلك أنه لما أراد بعض قادة الثوار إلغاء أو تعديل المادة الثانية من الدستور المصري والتي تنص على اعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للدستور رفضت الجماهير التي شاركت في الثورة إسقاط هذه المادة أو تعديلها وظهر ذلك من خلال الاستفتاء الذي أُجري بعد سقوط النظام على التعديلات الدستورية، وهو ما أدّى إلى إبقاء المادة كما هي لم تمس، وفشل بذلك قادة الثوار الذين طالبوا بحذف المادة أو تعديلها.
إنه وبالرغم من أن ذلك لا يُعتبر تطبيقاً للشريعة الإسلامية ولا تأسيساً لقيام الدولة الإسلامية إلا أن ذلك يُعتبر مظهراً حقيقياً على ممارسة الإرادة العامة الشعبية وليس ممارسة إرادة بعض القادة فيها فقط.
إن ما يغلب على الظن أن عملية الصراع في هذه الثورات لا تزال في بدايتها، وسوف يستمر صراع التيارات الفكرية داخل المجتمع، وتستمر معه عملية صراع الإرادات إلى أن تتبلور الإرادة الصحيحة، أو تهيمن على سائر الإرادات الأخرى ولن تكون هذه سوى الإرادة الإسلامية.
هذا بالنسبة لصراع الإرادات الداخلية، أما بالنسبة للصراعات الخارجية والتي تعبث بمقدرات وثورات الشعوب، فهي الإرادات التي تُعبِّر عن القوى الدولية التي تملك نفوذاً في البلدان الثائرة، فهذه أيضاً في حالة تصارع مع بعضها البعض من جهة ومع إرادة الأمة من جهة أخرى.
أما تصارعها فيما بينهما فقد ظهر ذلك جلياً في ثورة ليبيا حيث كان لبريطانيا وفرنسا موقفاً مغايراً تماماً للموقف الأمريكي فيما انقسمت سائر المواقف الدولية الأخرى بين هذين الموقفين. فالإنجليز دفعوا الفرنسيين إلى الصدارة في مواجهة الموقف الأمريكي الذي ظهر تردده إزاء ما يجري في ليبيا حيث تُقدِّم أمريكا رجلاً وتؤخر أخرى، فتارة تقوم بقيادة القوات الدولية، وتارة تترك القيادة لحلف الناتو، وأحياناً تُشارك في العمليات العسكرية بكثافة، وأحياناً أخرى تتراجع وتتلكأ في المشاركة.
ويبدو أن موقفها هذا مبني على أمرين:
الأول: محاولة تفويت الفرصة على الأوروبيين (البريطانيين والفرنسيين) الذين كانوا يريدون ترتيب الأوراق في ليبيا بسرعة وبدون منغصات.
الثاني: كونها لا تملك نفوذاً متميزاً في ليبيا كالذي تملكه أوروبا فيها، وهي نفسها قد اعترفت بذلك.
فأمريكا إذاً في موقفها هذا وهو القبض على العصا من المنتصف تريد أن يكون لها نصيب من الكعكة الليبية لا سيما وأن ليبيا تعوم على بحيرة من النفط. إن هذا الصراع بالذات هو الذي يعرقل عملية الحسم في ليبيا.
أما بالنسبة للصراع الأمريكي الأوروبي في الدول الأخرى التي تشهد الثورات ففي تونس حسمت الثورة بسرعة لصالح الأوروبيين ورتبت أوراقها بطريقة سلسة بعيداً عن أعين الأمريكيين. وفي مصر حسمت الثورة بسرعة من خلال الجيش لصالح الأمريكيين لخلوها من تأثير نفوذ أوروبي فاعل فيها.
بينما لم يُحسم الصراع في كل من ليبيا واليمن بسهولة وذلك بسبب وجود النفوذين فيهما وإن كان النفوذ الأمريكي فيهما أقل من النفوذ الأوروبي. وقد برز في ليبيا دور المخابرات الأمريكية والبريطانية ودور القوات الخاصة البريطانية بشكل واضح أثناء اندلاع الثورة وتحولها إلى حرب أهلية. وفي اليمن برزت التدخلات الأمريكية والبريطانية من خلال الرعاية المشتركة الأمريكية والبريطانية أولاً ثم الأمريكية والأوروبية ثانياً للمفاوضات بين الحكومة اليمنية والمعارضين لها. كما برزت من خلال تدخل الدول الخليجية والتي تعمل لصالح الإنجليز في الأزمة اليمنية، وهذه التدخلات الدولية هي أمر لم يخف على أحد من المتابعين للأحداث.
وأما في سوريا فالقبضة الأمنية الشديدة للنظام الحاكم، واستعداد النظام لارتكاب المجازر الجماعية ونزول الجيش إلى المدن كل ذلك يؤشر على أن الوضع في سوريا حساس جداً بالنسبة لأمريكا، لأن سقوط النظام السوري قد يقلب الأمور في المنطقة رأساً على عقب وهو يختلف بالنسبة لأمريكا عن سقوط نظام حسني مبارك في مصر فوجه الاختلاف أن قادة الجيش في مصر موالون لأمريكا وأما أفراده فمن المسلمين الموالون لأمتهم بينما في سوريا لا يمثل الجيش الشعب فهو جيش طائفي وهو والدولة والحاكم شيء واحد، وبالتالي فإن سقوط النظام السوري معناه انتهاء النفوذ الأمريكي كلياً من سوريا، وهذا قد يدخل المنطقة بأسرها في فوضى عارمة لا تملك أمريكا ولا غيرها القدرة على ضبطها، خاصة وأن سوريا تعتبر واسطة العقد في الشرق الأوسط كونها مجاورة (لإسرائيل) ولبنان والأردن والعراق وتركيا، وتغير النظام فيها قد يؤدي إلى الإطاحة بالنفوذ الأمريكي في جميع هذه البلدان وهو أمر تبدو عواقبه وخيمة على الأمريكان،وعلى غيرهم من المستعمرين، لذلك نجد أن أمريكا منذ بداية الانتفاضة في سوريا وهي تبعث برسائل عديدة تؤكد فيها على فكرة عدم ورود تدخلها، أو تدخل حلف الناتو في سوريا مهما كانت الأحداث ساخنة، وهو ما أعطى لنظام الأسد المبرر لزيادة سفك الدماء لقمع الثورة كونه مطمئن إلى عدم وجود أي تدخل دولي فاعل ضد النظام السوري.
وأما دور بريطانيا في سوريا فهو دور يعتمد على عملائها في المنطقة، ويظهر هذا الدور من خلال الدعم الإعلامي اللامحدود للثوار بقيادة هيئة الإذاعة البريطانية وملحقاتها. وتأمل بريطانيا أن تتمكن من الإطاحة بنظام الأسد ليحل مكانه نظام جديد تتحكم فيه من خلال عملائها القدامى من حزب البعث ومن الأحزاب الأخرى الذين ما زالوا مرتبطين بها سياسياً، فهي من المؤكد أنها تتوق لتغيير الأوضاع في سوريا، وستفعل بالتالي كل ما بوسعها لهذا التغيير.
بيد أن انقطاع النفوذ البريطاني مدة طويلة عن سوريا ممكن أن يؤدي إلى نجاح الثوار في بناء دولة غير موالية لها أو لغيرها من الدول الغربية، وهو ما قد يمهِّد لقيام دولة إسلامية حقيقية فيها ربما تكون فاتحة خير للعالم الإسلامي بأسره.
أما الجانب الآخر من الصراع فهو صراع القوى الغربية مع القوة الإسلامية الكامنة داخل الشعوب العربية والإسلامية والتي ما تزال تثير الذعر لدى الغربيين، وهو أمر يساهم في زيادة العبث بشؤون المسلمين للبحث عن عملاء بمقدورهم إدارة البلاد لصالح الدول الغربية الاستعمارية.
والخلاصة أن صراع الإرادات الخارجية فيما بينها عادة ما ينتهي بنوع من الصفقات في مثل حالتي ليبيا واليمن، فيما يستمر الصراع بين الإرادات الخارجية والداخلية، وبين الإرادات الداخلية نفسها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق