العولمة
أعلى درجات الاستعمار
العولمة هي نسخة مطورة من الرأسمالية ذات النكهة الأمريكية، فقد ظهرت العولمة بعيد سقوط الشيوعية
1991م واندثار الاتحاد
السوفياتي، فاستغلت أمريكا تفردها في الموقف الدولي وطالبت دول العالم بالتوقيع
على اتفاقية التجارة العالمية محولة اتفاقية جات للتعرفة الجمركية إلى منظمة
دولية، لتفسح المجال أمام رؤوس الأموال والسلع والمنتجات بحرية المرور بين الأسواق
العالمية بدون قيود أو سدود أو حدود في محاولة منها للهيمنة على قوى الاقتصاد
العالمية.فالعولمة رأسمالية من حيث الفكر والأيديولوجيا، أمريكية من حيث المولد
والنشأة والهوى. والفرق بين العولمة والعالمية أن العولمة تهدف إلى تحويل الشيء من
حالته القطرية إلى الحالة العالمية، بمعنى إكساب الشيء الصفة العالمية مع أنه ليس
بعالمي، بينما العالمية تعني أن الشيء في أصله كان عالمياً.لقد شاع في الآونة
الأخيرة استخدام تعبير العولمة في كل الشؤون والعلوم والمعارف بحيث لم تسلم من
تأثيره حتى العلوم الاجتماعية والإنسانية كالأدب والشعر والثقافة والسياسة... .ومن
تعريفات العولمة لدى من يناصرونها أنها: "حركة اجتماعية اقتصادية سياسية تشمل
المكان والزمان بحيث يبدو العالم صغيراً واحداً". فوفقاً لهذا التعريف اعتبر
العالم واحداً تتداخل فيه السياسة والاقتصاد والثقافة والسلوك، ولا أهمية للحدود
السياسية والانتماء الوطني أو العقائدي، ففي العولمة تنصهر كل تلك الارتباطات.ومثلهذا
التعريف غير مطابق للواقع؛ لأن القيود المفروضة على سبيل المثال من قبل الدول
الغنية على المهاجرين القادمين من الدول الفقيرة تزداد صرامة وقساوة يوماً بعد
يوم، ولأن العنصرية التي تمارسها الدول المتقدمة ضد الدول المتخلفة والتي أدَّت
إلى وقوع الكوارث البشرية والبيئية والحروب الأهلية وانتشار الأوبئة والمجاعات
وفرض الحصار وبناء الجدران ومراقبة الحدود وسن قوانين منع الهجرة وما نجم عن ذلك
من انتشار ظاهرة قوارب الموت وما شاكلها، كل ذلك من شأنه أن يجعل من التعريف
السابق للعولمة نكتة سخيفة، فلا حصلت الحركة السياسية والاجتماعية التي تحدثوا
عنها، ولا توحد العالم، ولا تعدت الحركة الزمان والمكان، ولا ذابت الانتماءات
العقائدية والوطنية في خضم العولمة، ولا حصل أي شيء مما ورد في التعريف.وبالتالي
فهذا التعريف وأمثاله من التعريفاتالتي تتحدث عن "صبغ العالم بدهان واحد
وتوحيد أنشطته الثقافية والفكرية والاجتماعية من غير اعتبار لاختلاف الأديان
والحضارات" غير صحيحة وغير مطابقة للحقيقة. والشيء الوحيد الذي عرفته البشرية
من هذه العولمة الرأسمالية الاستعمارية هو ترويج النمط الرأسمالي الإنتاجي
الأمريكي على اقتصاديات العالم وذلك برفع القيود عن الأسواق والبضائع ورؤوس
الأموال التي تتحكم فيها اقتصاديات الدول الرأسمالية الكبرى وفي مقدمتها أمريكا.أما
التعريفات الكثيرة التي وضعوها للعولمة فيغلب عليها الدعايةوالتلميع وتظهر فيها
الناحية الإنشائية الكلامية وهي ما أضفت شيئاً من الغموض والإبهام على العولمة
لتمييع المفهوم ولجعل التعريف فضفاضاً يلتبس على الكثيرين بقصد إبعاد الناحية
الرأسمالية الاستعمارية عنه لتنطلي تلك الخدعة على الكثيرين، فيظنون أن العولمة
شيء جديد مختلف عن الرأسمالية، وأنها قدر لا يُرد، وعلى جميع الشعوب القبول به
والاستسلام له.وبالتدقيق في واقع العولمة الرأسمالية نجد أن لها أربعة أرجل
أخطبوطية وهي:
(1)
تحرير التجارة العالمية:
وتعني فتح الأسواق المحلية أمام القوى
الاقتصادية الكبرى وإخضاعها لمبدأ (التنافس الحر) الذي يساوي بين القوى الكبيرة
والقوية وبين القوى الصغيرة والضعيفة، وهذا يعني بكل بساطة هيمنة مطلقة للقوى
الاقتصادية الكبرى على الاقتصادات الصغيرة وذلك بحجة أن الاقتصاد يجب أن يخضع لما
يسمى بفكرة (اقتصاد السوق) والتي تعني رفع (الحمائية) عن الأسواق لتكريس الهيمنة
الاقتصادية الاستعمارية للقوى الكبرى على أسواق الدول الضعيفة والصغيرة.
(2)
تدفق الاستثمارات
الأجنبية المباشرة:
ويعني ذلك فتح الأسواق المالية المحلية (البورصات)
من غير قيود للرساميل العالمية دون أية عراقيل، وتحويل البنوك المحلية إلى بنوك
شاملة بمشاركة بنوك الدول الكبرى للاستفادة من الصفقات والعمولات باستخدام التطور
في آليات الاتصالات التي تسمح بتدفق رؤوس الأموال الأجنبية وحرية حركتها.
(3)
الدور المتعاظم للشركات
متعددة الجنسيات:
حيث تتحكم الشركات عابرة القارات في جميع
مفاصل الاقتصاد القطري بما لها من إمكانية كبيرة على استغلال الفوارق بين الدول في
الموارد والقوى الاقتصادية المختلفة، وبما تملك من مزايا جغرافية تمنحها المرونة
في السيطرة على المرافق الاقتصادية للدول الصغيرة والضعيفة بالتعاون مع
الرأسماليين المحليين، وبفرض تشريعات وقوانين تنتهك الحمائية التي كان معمولاً بها
لحماية الاقتصاد المحلي، لذلك كان ضرورياً أن تقوم الشركات الكبرى بإعادة هيكلة
صناعاتها الضخمة مستغلة بذلك الأيدي العاملة الرخيصة في إنتاج سلعها، حيث قامت
بفتح فروع لها في كثير من الدول وهو الأمر الذي زاد في ربحها وقضى على الصناعات
المحلية قضاءً شبه تام.فطائرة بوينغ الأمريكية777 على سبيل المثال أصبحت تصنع في 12
دولة بعد أن كانت تُصنع فقط في دولة واحدة. وكل الشركات الكبرى الأخرى قامت بفتح
مصانع لها في دول كثيرة لتجني الأرباح الباهظة، ولتستغل الأيدي العاملة الرخيصة
ولتهيمن على حقل الصناعة المحلي في الدول الصغيرة والفقيرة.
(4)
ثورة المعلومات والتقدم
التكنولوجي:
لقد تم استغلال تكنولوجيا المعلومات لتحقيق
هدف تسهيل حركة الأموال والسلع والأفراد الممثلين للمصالح الاقتصادية للدول
والشركات الاستعمارية.هذه هيالأرجل الأخطبوطية الأربعة للعولمة التي بواسطتها تتم
السيطرة على الاقتصاد العالمي.فالعولمة في واقعهاإذاً تعني إيصال النمط الرأسمالي
الإنتاجي في التسويق والتداول والتوزيع والتمويل والتجارة من مستوى القطرية
والمحلية إلى مستوى العالمية، وهي حركة رؤوس الأموال الأجنبية بين الأسواق المحلية
لجني الأرباح واحتكارها لصالح القوى الاقتصادية الرأسمالية الكبرى بحيث أن
الاقتصادات القوية والسريعة تستحوذ على الاقتصادات الفقيرة والبطيئة.إن العولمة
بهذه
الصفة هي استعمار جديد وسريع للسيطرة على الأسواق والمواد الخام والأيدي العاملة
الرخيصة باستخدام تكنولوجيا المعلومات، وبالاستعانة بفرض تشريعات ترفع القيود
المحلية أمام انسياب الرساميل الأجنبية. وهي بهذه المعاني أصبحت تمثل أشرس أنواع
الاستعمار وأعلى مراتب الرأسمالية، ومنذ ظهورها في العقدين الأخيرين فتكت في
البشرية آفات المرض والجوع والفقر والأمية والهجرات والحروب والاستغلال والعنصرية،
وانعدمت جميع الخدمات الضرورية، وفقدت المياه النقية للشرب في معظم البلدان
وتلوثت، وتحولت شعوب كثيرة بفعل العولمة إلى شعوب مستجدية لقوتها اليومي، وأصبحت
عالة على منظمات الإغاثة الإنسانية التي تلقي لها بفضلات الدول الغنية.
2
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق