الجمعة، 22 ديسمبر 2023

تغير لهجة الخطاب الامريكي تجاه حرب غزة - الأسباب والتداعيات -

تغيّر لهجة الخطاب الأمريكي تجاه حرب غزّة - الأسباب والتداعيات -
 
 

إنّ الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع حرب غزة لم يطرأ عليها تغيّرات جوهرية، فالذي يتغير هو لهجة الخطاب الأمريكي وليست المواقف الأمريكية، فأمريكا مُنذ بداية الحرب استلمت دفّة قيادة الحرب، ومنعت غيرها من المُشاركة فيها، وقطعت الطريق على الدول الكبرى الأخرى من التأثير في مُجرياتها، فأرسلت بوارجها وحاملات طائراتها إلى شرق البحر المتوسط، وتكفلت بجسر جوي مُستمرٍ لا ينقطع؛ يشحن ويزوّد كيان يهود بكل ما يحتاجه من عتاد وذخيرة وسلاح، ومنعت أي دولة إقليمية أو محلية من التدخل في الحرب بشكلٍ قطعي، كإيران ومصر والأردن وتركيا، وحصرت الصراع داخل حدود غزة فقط، ثمّ سمحت بعد ذلك لكيان يهود بشن حرب إبادة ضد أهل غزة، ومنحته الغطاء الدولي لارتكاب المزيد من جرائم القتل والتدمير والتجويع وإهلاك الحرث والنسل داخل حدود قطاع غزة، ولكن منعته من تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء، مع أنّ فكرة التهجير كان هدفاً واضحاً لحكومة نتنياهو تسعى إليه، فسمحت أمريكا لقادة كيان يهود بإشباع مظاهر غريزة الانتقام والحقد لديهم، والظهور بمظهر الأقوياء القادرين على الرد على هزيمتهم المُدّوية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وترميم صورتهم التي تهشّمت، وإعادة الاعتبار لمكانة الدولة التي لا تُهزم.
 
ثمّ بعد شهرين من اندلاع الحرب، وبعد إشباع نهمهم العسكري في القتل والتدمير، وبعد عجز جيش يهود عن تحقيق أية نجاحات عسكرية سوى قتل النساء والأطفال والمدنيين، بدأت أمريكا في التحركات السياسية، فطرحت أولاً الخطوط السياسية العريضة للإدارة الأمريكية، وشكّلت التصوّر السياسي الأمريكي لحل القضية الفلسطينية، وجعلت من رؤيتها السياسية للحل رؤية عالمية تبنّتها مُعظم دول العالم، لا فرق بين بريطانيا وفرنسا وسائر الدول الأوروبية، أو بين روسيا والصين وسائر دول العالم، فكل الدول على اختلاف مشاربها قبلت بالرؤية الأمريكية للحل.
 
وتضمّنت هذه الرؤية فكرة الدولتين، ومنح الفلسطينيين الحق السيادي في إدارة شؤونهم، والاعتراف بتطلّعاتهم السياسية، ورفع يد الاحتلال عنهم، واعتبار الضفة الغربية وقطاع غزة وحدة جغرافية واحدة، وتمكين السلطة الفلسطينية من إدارة شؤون الضفة وغزة بعد إصلاحها وتجديدها، وقامت بضخ هذه الأفكار في وسائل الإعلام وتردّد صداها بين النخب السياسية، وأصبحت من ثمّ جميع دول العالم تُردّد فكرة الدولتين كحل للمشكلة الفلسطينية.
 
استاءت حكومة نتنياهو التي تضم المستوطنين والمُتديّنين الصهاينة من هذا الطرح السياسي الأمريكي الجديد، فأظهرت رفضها لفكرة الدولتين علانيةً، وقال الوزراء فيها بأنّهم لن يسمحوا بإقامة دولة فلسطينية بين النهر والبحر.
 
رتّب الرئيس الأمريكي ردّه السياسي على تعنت نتنياهو من خلال حشد اليهود الأمريكيين حوله، وأعاد التذكير بأنّه يتصرف كصهيوني أكثر ما يهمّه حماية أمن دولة يهود، وكرّر القول بأنّه لو لم تكن (إسرائيل) موجودة لاخترعناها، ثمّ وفي أول مؤتمر للمانحين لحزبه الديمقراطي طالب بايدن نتنياهو بالتغيّر، وطالبه بتغيير وزراء في حكومته التي وصفها بأنّها أكثر حكومة مُتطرّفة في تاريخ الدولة اليهودية، وقال بأنّ الشعب اليهودي بات على المحك، وأنّها تفقد الدعم العالمي بسبب القصف العشوائي لطائراتها في غزة، ثمّ تمّ تسريب تقييم استخباري أمريكي كشف عن أنّ ما يصل إلى 45% من إجمالي قذائف جو-أرض الـ 29000 التي أطلقها الجيش على غزّة كانت قذائف غير مُوجّهة (قنابل غبيّة) بهدف تشويه الحملة العسكرية لنتنياهو، ولكنّ نتنياهو لم يقف صامتاً على هذا الهجوم السياسي الأمريكي فردّ عليه بهجومٍ مُعاكس، ودعا إلى إنشاء إدارة مدنية في غزة تابعة لجيش الاحتلال، وأكّد على أنّ غزّة لن تكون حماسستان ولا فتحستان، وقال بأنّه لن يسمح بالعودة إلى خطأ اتفاقيات أوسلو، وتحدّى بايدن أكثر فقال بأنّ القائد الأنسب حالياً لقيادة الدولة اليهودية هو الذي يستطيع مُقاومة الضغوط الأمريكية، وأنّه لن يكون مثل ديفيد بن غوريون أول رئيس لكيان يهود سنة 1956 الذي خضع وقتها لأمريكا، وانسحب من غزة وسيناء امتثالاً لطلب الولايات المتحدة، وذلك بُعيد العدوان الثلاثي على مصر وقناة السويس الذي شارك به كيان يهود مع بريطانيا وفرنسا، وبذلك بلغت العلاقة بينه وبين بايدن أسوأ درجاتها.
 
لكنّ أمريكا لم تُظهر تذمّرها من نتنياهو علناً، بل قامت بإطلاق تصريحات فيها شيء من التهدئة والاحتواء، وقالت بأنّ من حق حكومة نتنياهو الدفاع عن نفسها، وأنّها هي التي تُقرّر الفترة الزمنية للحرب حسب ما تراه مُناسباً.
 
وفي الوقت نفسه قامت الإدارة الأمريكية بإرسال مُستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إلى كيان يهود، وهو الرجل الأخطر الذي يُشرف مُباشرة على تنفيذ الخطط الأمنية في أي مكان لأمريكا نفوذٌ فيه، وبعد عقد مُفاوضات حاسمة مع المسؤولين السياسيين والأمنيين في كيان يهود، أعلن عن التوصل إلى اتفاق بين واشنطن وتل أبيب على أنّ القتال سيستغرق أشهراً كما طالب نتنياهو، ولكن وفق مراحل مُختلفة، وأنّ (إسرائيل) ستُواصل مُطاردة قادة حركة حماس في غزة كالسنوار والضيف ونائبه مروان عيسى، وأوضح في مؤتمر صحفي عقده في تل أبيب بأنّه سيكون هناك انتقال إلى مرحلة أخرى من الحرب بين (إسرائيل) وحماس ستركّز على طرق أكثر دقة لاستهداف قيادة حماس، وأكّد على أنّ (إسرائيل) لا يُمكنها إعادة احتلال غزة على المدى الطويل، وأنّ الفلسطينيين الذين تمّ إجلاؤهم من شمال غزة يجب أنْ يتمكّنوا من العودة لبيوتهم، كما أعاد التأكيد على ضرورة حل الدولتين، وعلى أنْ تقوم السلطة بعملية إصلاح وحوكمة على الطريقة المؤسّساتية، وتكون أمريكا شريكةً معها لمُراقبتها وتطوير أساليبها، وأنّها بحاجة إلى التجديد لتمثيل شعبها.
 
إنّ هذا الاتفاق يعني في النهاية أنّ الحرب الواسعة المُكثّفة ستنتهي، وأنّ فرص التفاوض على مُبادلة الأسرى ستزداد، وهذا يؤدي بالتالي إلى الدخول في فترة هدوء نسبية تخلق معها ظروفاً جديدة، ستؤدي على الأغلب بالإطاحة بنتنياهو وشركائه اليمينيين، وهذا بالضبط ما تسعى إليه الإدارة الأمريكية.
 
إنّ صمود المُقاومة وتحمّل أهل غزة حمم الطائرات اليهودية، وصبرهم على سياسة التجويع المقصودة طوال هذه المُدّة الطويلة من الحرب، وتحمّلهم لكل هذه الأحزان والجراحات والشهداء، هو الذي أدّى إلى فشل مُخطّطات تصفية القضية الفلسطينية، وهو الذي أربك حسابات جيش الاحتلال، وأثبت هشاشة هذا الكيان الصهيوني الذي حطّمت هذه الحرب أسطورته المُزيّفة، وبدّدت الهالة الكاذبة التي كانت تُردّدها وسائل الإعلام العربي الرسمي عن قوة جيشه التي لا تُقهر، فإذا بها قوةً وهمية لم تستطع بعد أكثر من سبعين يوماً من القتال من تحقيق أية إنجازات
الاستاذ احمد الخطواني

الأربعاء، 13 ديسمبر 2023

مقترحات امريكية مشبوهة يقدمها السيسي واردوغان

مقترحات أمريكية مشبوهة يُقدّمها السيسي وأردوغان
 
تستخدم الدول الكبرى - في ظروف سياسية مُعيّنة - العديد من أدواتها وعملائها استخداماً يخدم أغراضها، فتحمّلهم أفكارها وأطروحاتها، فيقومون بدورهم بطرح أفكارها وكأنّها من نتاج تفكيرهم وخططهم، مع أنّهم مُجرد ناقلين وحاملين لها.
 وتهدف الدول الكبرى من استخدامهم في نقل أطروحاتها دراسة وفحص ردود أفعال القوى الدولية أوالاقليمية أوالمحلية حول مُبادرات تنوي الدول الكبرى طرحها، أو طرح بعض منها في المُستقبل لمُعالجة مُشكلة سياسية مُعينة تقع في مناطق نفوذها، فتتحسّس بذلك إمكانية نجاح تلك المقترحات من خلال ملاحظة ردات الفعل تلك، بالاضافة الى استخدامها كنوع من الضغوط الأولية التي تُمارسها على السياسيين الرافضين لتلك المُبادرات. 
وبناءً على هذا الأسلوب من التخطيط والتدبير والتكتيك يبدو أنّ أمريكا رأت أنْ تستخدم في هذه الأثناء كلاً من الرئيس المصري والرئيس التركي في تحقيق أهدافها السياسية في الشرق الأوسط بعد انتهاء حرب غزة من خلال طرح تلك المقترحات لجس نبض حكام كيان يهود تجاهها من ناحية، ولترويض زعماء الكيان والضغط عليهم من ناحيةٍ ثانية، ومن ثمّ لحملهم على  التجاوب مع المقترحات الأمريكية التي تُحضّرها في المُستقبل، والتي يطرح عملاؤها نماذج منها بصيغٍ أولية.
ومن هذه المُقترحات ما طرحه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حول فكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، حيث قام بطرحها مرتين خلال حرب غزة  باعتبارها حل عملي للصراع الفلسطيني مع دولة يهود، فاعتبر أنّ إنشاء هذه الدولة الفلسطينية مرهونٌ بوجود قوات دولية من الناتو، أو من قوات مُشتركة أمريكية وأوروبية وعربية، وجاء هذا طرح السيسي هذا في مُناسبتين: الأولى في مؤتمر صحفي عقده مع المستشار الألماني أولاف شولتس بتاريخ 18 – 10 - 2023، والثانية في مؤتمر صحفي آخر مع رئيسي وزراء بلجيكا واسبانيا بتاريخ 24 – 11 – 2023.
والجديد اللافت في طرحه لفكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح هذه المرة  - وفي هذه الظروف بالذات - هو ربطها بفكرة القوات الدولية، وهي الفكرة التي يبدو أنّ أمريكا تريد الآن تسويقها، والضغط بها على كيان يهود لحمله على قبولها.
لا سيما وأنّ المشكلة عند قادة يهود لا تكمن بقبولهم بدويلة فلسطينية منزوعة السلاح، بل المشكلة عندهم تتعلّق بوجود القوات الدولية التي يُدركون أنّها تُحجّمهم، وتُقيّد توسع دولتهم، وتجعل من القوات الأجنبية أداة فاعلة تتحكم بأمنهم وبوجودهم ومُستقبلهم.
والدليل على ذلك ما سبق أنء طرحه زعماء يهود عن الدولة الفلسطينية في عدة مُناسبات، وكان طرحهم إذاك ينفي وجود قوات دولية على حدود الدولة الفلسطينية، فقد طرح اريئيل شارون رئيس وزراء كيان يهود في سنة 2001 فكرة إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح يُراقب الجيش اليهودي حدودها وليس القوات الدولية، وعبّر نتنياهو عن استعداده لقبول دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ولكن لا تملك أي قوة عسكرية أوعتاد تسليحي، وبشرط أنْ تعترف بــ ( اسرائيل ) كدولة قومية للشعب اليهودي، وكذلك دعمت وزيرة الخارجية لدولة يهود بين عامي 2013 و 2014 فكرة ايجاد دولة فلسطينية منزوعة السلاح بشرط عدم وجود قوات دولية.
وهكذا كان هاجس زعماء دولة يهود دائماً هو خوفهم من فكرة القوات الدولية، فكانوا دائماً يُصرّوا على تجريد الدولة الفلسطينية منها، واستبعادها تماماً.
وأمّا السلطة الفلسطينية فقد قبلت بفكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح حتى من دون أنْ يعرضها عليهم أحد، وظهر ذلك في عدة مُناسبات، ففي 2013 سنة قال محمود عباس لصحيفة هآرتس العبرية :" إنّ الدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح"، وفي سنة 2014 قال لصحيفة نيويورك تايمز :" إنّ الدولة الفلسطينية لن يكون لها جيشها الخاص بل قوة شرطة فقط"، وفي سنة 2018 أبلغ وفد يهودي يهودي زاره أنّه مُوافق على دولة فلسطينية منزوعة السلاح بلا جيش ولا قوة عسكرية نظامية لها، وأنْ يكون تسليحها خفيف للشرطة ( هراوات وليس مُسدّسات )، وهذا ما لم تطلبه منه حتى دولة يهود.
فالمشكلة بين أمريكا وكيان يهود باتت تتركّز حول القوات الدولية التي تُصرّ دولة يهود على رفضها، بينما تُريد أمريكا تطبيقها، وتستخدم أمريكا مصر في التمهيد لها من خلال مُقترحات السيسي المُتكرّرة، فيما رفضها نتنياهو صراحة في اليوم التالي لعرض السيسي لها، وكان ذلك الرفض بتاريخ 25 – 11 – 2023 بادّعائه أنّ فكرة الدولة الفلسطينية باتت قديمة، وأنّ ما كان قبِله في عام 2009 لم يعد مقبولاً في عام 2023.
وأمّا الرئيس التركي أردوغان فقدّم هو الآخر مُقترحاً مشبوهاً يتعلّق بضرورة ايجاد (بُنية أمنية في غزة) تكون تركيا جزءاً منها، وقال بأنّ:" تركيا تُناقش الفكرة مع الأطراف الدولية والاقليمية لإنضاجها"، وهذه فكرة أمريكية بامتياز يتم تدارسها بين دول المنطقة، لضمان أمن كيان يهود، وضمان عدم إطلاق النار نهائياً على كيان يهود من قطاع غزة في المُستقبل، وذلك لطمأنة هذا الكيان على سلامته قبل الخوض في مُبادرات سياسية، بمعنى أنْ يكون الحل في البداية حلاً أمنياً يُقنع قادة دولة يهود، يمّ يتبعه فيما بعد الحل السياسي.
إنّ هذه المُقترحات المشبوهة التي يُسوّقها السيسي وأردوغان ما هي سوى مُقترحات أمريكية تهدف إلى إقناع كيان يهود بها، كما تهدف إلى التوطئة لها من خلال ادواتها من أجل تسويقها، ووضع مُبادرة سياسية أمريكية للمنطقة يتم تحضيرها وإعدادها.
إنّ هذه المُقترحات المشبوهة ينبغي كشفها، وإماطة اللثام عن أبعادها ومراميها، وفضح من يحملها ويتبنّاها كالسيسي وأردوغان، ثمّ بيان كونها مُقترحات سياسية وأمنية أمريكية ترمي إلى حماية أمن يهود، وتصفية القضية الفلسطينية.