تخبط المعالجات الرأسمالية للأزمة الاقتصادية
العالمية
إن إخراج العالم من أزمته
الاقتصادية لا شك أنه يواجه عقبات ومصاعب عديدة يصعب على الدول الكبرى تخطيها
بسهولة، فالرأسمالية التي أطاحت بتريليونات الدولارات في لحظات لا يمكن أن تعيد
تلك الأموال لأصحابها بحال من الأحوال لأنها في الأصل لم تكن أموالاً حقيقية، وإنما
كانت أرقاماً في حسابات دفترية وليست أصولاً أو جهوداً موجودة في الواقع.
يقول الخبير حسن حامد
حسان لوِكالة ((CNN)): "إن العالم تورط في
تعاملات قيمتها ستمائة تريليون دولار في حين أن الاقتصاد الحقيقي للعالم لا يتجاوز
الستين تريليون دولار" وهذا الكلام يعني أن تسعة
أعشار الأموال التي كان يتم تداولها لم تكن موجودة، ولما انكشفت الأرصدة المالية
في البنوك انفجرت الأزمة المالية وتبددت تلك الأموال في الفضاء وعاد العالم إلى ما
لديه من أموال حقيقية أي عاد إلى التعامل بعشر المال الذي كان يظن أنه يحوز عليه.
لم تجد أمريكا والدول
الرأسمالية الكبرى الأخرى من علاج لأزمتها المالية العالمية سوى ما أسموه بخطة
التحفيز، أي ضخ الأموال في البنوك والمؤسسات المالية ليحولوا دون وقوع الانهيار
الكامل في الحياة الاقتصادية، فضخت أمريكا (787) مليار دولار منها (159) مليار حافظت بواسطتها على (640) ألف وظيفة، وقال جو بايدن
نائب الرئيس الأمريكي: "إن كل دولار أنفق من حزمة الحوافز ساعد في إعادة
شخص ما إلى العمل".
ومع كل هذا الضخ للأموال
فإن أرقام العجز في الموازنة والميزان التجاري في أمريكا في اضطراد، فقد بلغ العجز
في الميزانية لهذا العام 176.36 مليار بزيادة قدرها 20 مليار عن العام السابق
ويُعزى هذا العجز إلى سببين هما:
1) انخفاض العائدات الضريبية.
2) انخفاض الإيرادات
المتعلقة بالحفز والإنفاق الحكومي.
وأما العجز في الميزان
التجاري فقد بلغ 18.2% بواقع 36.5 مليار دولار شهرياً، بينما كان في آب الفائت 30.8 مليار، وأما العجز في
الميزان التجاري الأمريكي مع الصين وحدها فقد بلغ 22.1 مليار بنسبة 9.2%.
وأما الحكومة البريطانية
فقد ضخت 53.5 مليار جنيه إسترليني لرويال بنك أوف سكوتلاند ولمجموعة لويدر للتأمين
لتبقي على مؤسساتها المالية خوفاً من الانهيار الشامل باعتبار أن هذه المؤسسات
الربوية هي أهم ثروات بريطانيا.
وضخت الدول الكبرى الأخرى
عشرات المليارات من الدولارات لمنع بروز قوى إقتصادية جديدة تعتزل هذا النظام
الرأسمالي العالمي وتنكفئ على نفسها متبنية السياسات الحمائية وذلك خوفاً من تكرار
أزمة 1929م وما تمخض عنها من ظهور ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان
واندلاع الحرب العالمية.
وما زال البنك العالمي
الذي تسيطر عليه أمريكا والدول الرأسمالية الغربية يحذر من مغبة الوقوع في
السياسات الحمائية بسبب تفشي البطالة وعدم توزيع الأموال توزيعاً عادلاً.
إن خطط التحفيز التي
استخدمتها الدول الرأسمالية الكبرى كعلاج ودواء للاستشفاء من آثار الأزمة
الاقتصادية العالمية التي ما يزال العالم يتخبط في دياجيرها لم تنجح في إعادة
العالم إلى ما كان عليه من ازدهار اقتصادي ولن تنجح في ذلك أبداً. والسبب بسيط جداً وهو أن
العالم الرأسمالي كان يعيش في حالة اقتصادية وهمية، فبسبب التسهيلات الائتمانية
كانت المصارف تقدم القروض للأفراد الذين كانوا يعيشون في مستوى معيشي أعلى من
المستوى الذي توفره لهم دخولهم، فمثلاً كان الشخص الذي يدخل عليه ألف دولار يعيش
بمستوى الشخص الذي يدخل عليه ألفي دولار معتمداً على الاقتراض السهل والسداد السهل
أو عدم السداد نهائياً.
وبعد أن تضخمت الأموال
المعدومة وعجز الكثيرون عن السداد وخاصة بعد بروز فقاعة المساكن انفجرت الأزمة
المالية في وجه العالم الرأسمالي وتبددت الأموال في لمحة عابرة.
ثم جاءت خطط التحفيز ووضعت
القيود الصارمة على الائتمان، وعاد الناس إلى مستواهم المعيشي الحقيقي فلا ينفقون
إلا بقدر ما يملكون، ولا يوجد من يقرضهم بدون ضمانات مشددة لضمان السداد، وهو ما
أدّى إلى حالة من التباطؤ الاقتصادي مع أنها الحالة الحقيقية لما عليه المجتمع من
قدرات اقتصادية واقعية؛ ولأن الحالة السابقة كانت حالة مزيفة لاقتصاد مضخم،
والعودة إليها يعني العودة إلى الاقتصاد الوهمي المبني على ما يطلقون عليه اقتصاد
الفقاعة التي قد تنفجر في أية لحظة.
فخطط التحفيز ما هي في
الواقع سوى معالجات تسكينية لأوجاع المشكلة وليست حلولاً شافية لها. يقول نورييل روبيني أستاذ
الاقتصاد في جامعة نيويورك في مقاله نشرته صحيفة الفايننشال تايمز في منتصف شهر
نوفمبر (تشرين ثاني) عام 2009م: "إن الاحتياطي الاتحادي
الأمريكي والبنوك المركزية الأخرى في العالم تسهم في خلق فقاعة ضخمة تنذر بنتائج
كارثية في المستقبل"،
ويرى روبيني بأن: "المحافظة على سعر الفائدة عند نحو الصفر في المائة
يدفع المستثمرين والمضاربين إلى شراء الدولار بسعر فائدة منخفضة يستثمرونه في شراء
الأسهم والسندات والذهب والنفط والمعادن والعملات الأجنبية مما يؤدي إلى زيادة
أسعارها وتحقيق أرباحاً طائلة"،
ويضيف بأن "هذا الوضع لا يمكن أن يستمر هكذا فالاحتياطي الاتحادي سيجد نفسه
مضطراً في النهاية إلى رفع سعر الفائدة وهو ما سيدفع بالمستثمرين إلى التنافس لجني
الأرباح عن طريق البيع السريع وهو ما يؤدي إلى انهيار وهبوط أسعار السلع ويتبع ذلك
فقدان الثقة وهبوط في الاقتصاد"،
وينهي روبيني كلامه بالقول: "إن الاحتياطي الاتحادي
وصانعي السياسة لا يعرفون بخطورة الفقاعة التي يخلقونها".
غير أن صحيفة الواشنطن
بوست تقول في زاويتها الاقتصادية رداً على تحذيرات وتوقعات روبيني بأن: "نصف ما يقوله حقيقي
فأسعار الأصول بدأت بالارتفاع وزاد سعر النفط إلى 80 دولار للبرميل وارتفع سعر
الذهب إلى 1090 دولار للأونصة (والآن بلغ 1200 دولار للأونصة) وانخفض سعر الدولار مقابل
العملات الرئيسة".
وتضيف الصحيفة بأن كلام
روبيني عن ارتفاع الأسعار مدفوع بالقروض الرخيصة غير صحيح "لأن المستهلكين والشركات
قاموا بعمليات جمع لاحتياطيات نقدية وخفض للإنفاق وبيع للأسهم في بداية العام
الحالي مع ضعف الاقتصاد، ومنذ ذلك الحين تحسنت المؤشرات الاقتصادية والأسواق
وعوَّضت الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها في الأشهر السابقة، وأسعار اليوم لا تزال
أقل من أسعار الذروة التي وصلتها في السابق، فالنفط لم يصل إلى 150 دولار كما كان في السابق وهبوط الدولار أدّى إلى
زيادة القروض وزيادة المضاربة والبنوك في الولايات المتحدة وأوروبا تخفض الائتمان،
وأن تخفيض سعر الفائدة تجبر الناس على إنفاق الأموال أو استثمارها".
وتنهي الواشنطن بوست
تحليلها بالقول: "تعلمنا أن هناك خيطاً رفيعاً بين تعزيز توسع
الاقتصاد وخلق مناخ الفقاعة ولأخذ العبرة من الماضي فإن سياسات الاحتياطي الاتحادي
المرنة في السابق قد أدَّت إلى خلق فقاعة التكنولوجيا في نهاية تسعينات القرن
الماضي وخلق فقاعة المساكن أخيراً".
وإن ما يزيد من قلق
الاقتصاديين الأمريكيين مشكلة هروب رؤوس الأموال إلى أسواق الدول الآسيوية
واللاتينية وقيام البنوك المركزية في تلك الدول بالإبقاء على سعر فائدة مرتفع
لتعزيز عمليات الائتمان وهو ما أدّى إلى ازدهار أسواق الأسهم فيها إلى مستويات لم
تعرفها من قبل وهو الأمر الذي ينذر بحدوث أزمة جديدة. فرفع سعر الفائدة الربوية
عادة ما يشجع على استقدام رؤوس الأموال الأجنبية، بينما لو ظلت أسعار الفائدة
منخفضة فإن ذلك على الاقتراض بالعملة المحلية.
إن آراء المحللين
الأمريكيين ظاهر فيها الحيرة والخوف من تكرار الانهيارات المالية ويخشون كثيراً
من خلال كتاباتهم من ظاهرة حدوث الفقاعات لذلك فنحن نرى التشدد في الإجراءات
التي تتخذها الحكومة الأمريكية في مسائل الائتمان وسعر الفائدة.
فالمحاولات الأمريكية
والأوروبية في إيجاد معالجات تمنع استشراء الأزمة المالية فيها لم تفلح في التخلص
من شبح البطالة الذي أطلَّ برأسه مشكلاً أزمة جديدة لا تقل في خطورتها واستمرارها
عن الأزمة المالية العالمية، فارتفاع معدلات البطالة، والفشل الواضح في تخفيضها خاصة في العام الأخير أظهر حقيقة أن هذه الأزمة هي الهاجس
الذي يقلق السياسيين والاقتصاديين في الغرب، فالبطالة سجلت أرقاماً مخيفة في الدول
الغربية مؤخراً حيث بلغت في أمريكا أكثر من 10% وفي بريطانيا 7.8% وفي الدول الأوروبية تراوح ما بين 6.5% وَ 8.5% وهو ما حدا بالمدير العام
لمنظمة التجارة العالمية باسكال لامي من القول بأن: "ارتفاع معدل البطالة هو
أكبر خطر يُهدِّد التجارة الحرة في العالم وقد يتسبب في إطلاق المزيد من السياسات
الحمائية في العالم".
إن معالجة الأزمة المالية
بخطط التحفيز قد خلقت دولاراً ضعيفاً أوجد مشكلة مزمنة في العالم وأدّى إلى عدم
وجود أي استقرار نقدي، خاصة إذا عُلم أن الوضع المالي الائتماني للبنوك الأمريكية
متأزم لدرجة أنه يصعب معه الوثوق بالاقتصاد الأمريكي نفسه، حيث ما زالت البنوك
الأمريكية تتهاوى، وقد بلغ عدد البنوك المنهارة منذ بداية هذا العام ما يزيد على
المائة وعشرين بنكاً. وإذا أضفنا على ذلك مشكلة زيادة المديونية الحكومية للولايات المتحدة
الأمريكية بسبب حروبها في العراق وأفغانستان، والخشية من تعاظم تلك المديونية،
فإننا نستطيع بعد ذلك أن نفسر بسهولة أسباب ارتفاع سعر الذهب والنفط والمعادن
الأخرى.
فتدهور واضطراب سعر صرف
الدولار، وارتفاع معدل التضخم في أمريكا، وقيام صندوق النقد الدولي بيع الذهب إلى
الهند والصين، ولجوء المصارف المركزية في العالم إلى الذهب، كل ذلك يفسر هذا
الارتفاع الحاد لهذا المعدن النفيس الذي لو لم يُستبعد من الغطاء النقدي لما حصل
للعالم أي مشكلة مالية.
إن حالة العلاج بالتحفيز
لدى الدول الغربية الكبرى أظهر قوى اقتصادية كبرى جديدة إلى السطح وهي ما أطلق
عليها دول البريك الأربعة [البرازيل، والصين، وروسيا، والهند] والتي تميز اقتصادها عن
سواها بشكل واضح منذ أن أطلقت عليها هذا الاسم الشركة المالية الاستثمارية
الأمريكية Gold mansachs في العام 2003م.
فاقتصادها ينمو بوتيرة
ثابتة وبطريقة ديناميكية أفضل من غيرها، لذلك ليس غريباً أن قامت الدول الغربية
بإغرائها للدخول في منظومة دول العشرين، ووعدتها بزيادة حصصها التصويتية في صندوق
النقد الدولي وفي البنك العالمي. ويبدو أن هناك مداولات سرية كما تقول صحيفة
الإندبندنت البريطانية تجري بين الصين واليابان وروسيا وفرنسا من جهة وبين دول
الخليج بتشجيع بريطاني من جهة ثانية للتحول خلال عشر سنوات إلى تسعير النفط مقابل
سلة من العملات بدلاً من تسعيره بالدولار الأمريكي.
وقد أفصحت الصين صراحة عن
رغبتها في استخدام عملتها اليوان في التسعير، وصرَّح الرئيس البرازيلي لويس
إيناسيو لولا دي سيلفا في مقابلة أجرتها معه صحيفة (Financial times)
بأنه: "يتوجب على دول مجموعة ألـ (Bric) التخلي عن الدولار واستخدام العملات الوطنية في
الحسابات التجارية فيما بينها"،
وأضاف: "إن الدول الأعضاء في ألـ (Bric) تشكل تحالفاً قوياً
وتتمتع بمستقبل زاهر ولذا يجدر بها التركيز على الجوانب الإيجابية في التعاون فيما
بينها لتحقيق النجاح المرتجى".
وبخلاف الدول الغربية
التي تعاني من ركود فإن دول البريك تحقق نسب نمو مرتفعة وكأنها لم تتأثر أبداً
بالأزمة المالية العالمية، فقد وصلت نسبة النمو في الصين على سبيل المثال في الربع
الثالث من عام 2009م إلى 8.4% بعد أن كانت في بداية العام 6.1% وأنفقت الحكومة الصينية 586 مليار دولار على مشاريع في البنى التحتية، وتعهد رئيس وزرائها وين
جياو باو بتقديم 10 مليار دولار قروض لأفريقيا لتقوية العلاقات التجارية الأفريقية
الصينية على حساب العلاقات الأوروبية الأفريقية، ودعمت الصين روسيا بعشرة مليار
دولار في مشاريع مشتركة. وكان حجم الصادرات الصينية قد وصل العام الماضي
إلى أكثر من 400 مليار دولار بينما لم تتعدى الصادرات الأمريكية حاجز أل 70 مليار ومع ذلك فالاقتصاد الصيني يحتاج بشدة إلى الاقتصاد الأمريكي،
يقول سيدني ريتنبرغ أحد المحللين المختصين بالشؤون الصينية: "العلاقة بين البلدين
ترتكز على أن الأمريكيين يشترون المنتجات الصينية، والصين تستخدم المداخيل لتمويل
المديونية العامة في أمريكا ودون هذا التمويل ستكون الحال صعبة جداً على الاقتصاد
الأمريكي".
وتتسابق كل من روسيا
والهند والبرازيل مع الصين على الاستثمار في أفريقيا إلى جانب أمريكا والدول
الأوروبية. فالصين قد تصدرت قائمة المصدرين إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال
العام الجاري إذ ارتفعت قيمة صادراتها إلى 59 مليار دولار مقابل تراجع
حصة الولايات المتحدة إلى 53.8 مليار دولار في المركز الثاني. وقد خصّصت الشركات
الصينية في هذه الأيام مبلغ 16 مليار دولار للبحث عن النفط والغاز في دول الخليج وشمال أفريقيا،
وهذا كله يؤشر على وجود قوى اقتصادية حقيقية جديدة في العالم وعلى رأسها الصين
تُنافس القوى الغربية التي ما زالت تتخبط في معالجاتها التحفيزية منافسة محمومة.
وفي خضم هذا التحاطم
الاقتصادي بين تلك القوى الاقتصادية الضخمة تغيب دول العالم الإسلامي عن الساحة
الاقتصادية تماماً كما هي غائبة عن الساحة السياسية، ولا يُنظر إليها من قبل هذه
الدول المتطاحنة إلا بوصفها أماكن صراع تحوي في جوفها الكثير من النفط والغاز
والثروات.