استراتيجيات
الأعمال السياسية الخارجية
في الدولة
الإسلامية
إن مجرد وجود أعمال سياسية خارجية لدى أية دولة تعني
بالضرورة أن هناك حضور لها في الموقف الدولي، لذلك كان لا بد من إيجاد علاقات مع
الدول الخارجية من أجل إقامة أعمال سياسية
معها.
لكن الأعمال السياسية المقصودة هنا إنما هي الأعمال التي
تؤثر في السياسة الدولية تأثيراً واضحاً، وتؤدي بالتالي إلى إشغال الدولة حيزاً
ملموساً في الساحة الدولية، وهو ما يجعل لها مكانة ووزناً بين دول العالم.
على أنّ منطلق جميع تلك الأعمال السياسية الخارجية يقتضي
أن يستند إلى زاوية خاصة يُنظر من خلالها إلى جميع الأحداث السياسية في العالم،
ومن دون هذه الزاوية لا قيمة للأعمال السياسية التي تُباشرها الدولة، وهذه الزاوية
غالباً ما تكون ثابتة لا تتبدل ولا تتغير في الدول المبدئية، وعليها تُبنى جميع
الأعمال السياسية الدولية.
وبالنسبة للدولة الإسلامية فإن نشر الدعوة الإسلامية إلى
العالم هي الزاوية الخاصة الثابتة والدائمة التي تُبنى عليها كل السياسات والخطط
والاستراتيجيات.
ولو استعرضنا الأعمال السياسية الخارجية للدولة
الإسلامية التي أقامها الرسول r للمسنا أهمية الزاوية الخاصة فيها، فإنه
عليه الصلاة والسلام قد حدّد زاوية العمل بعد ترسيخه للدولة الإسلامية، وبعد
تنظيمه للمجتمع الإسلامي في المدينة المنورة تنظيماً دقيقاً.
فكانت معاداة قريش باعتبارها الحاجز المنيع الذي وقف في
وجه الدعوة الإسلامية هي الإستراتيجية الأولى التي تبناها عليه الصلاة والسلام
وحصر جميع الأعمال السياسية والحربية فيها.
فبعد أن أمّن جبهته الداخلية بعقد المعاهدات مع اليهود
وفرض السيادة الإسلامية الكاملة على جميع سكان المدينة وما حولها، شرع بإرسال
العيون لترصد قريش، وبدأ يتعرض لتجارتها، واشتبك معها في معارك عديدة كانت غزوة
بدر ذروتها.
فكانت إستراتيجية التفرغ لقريش ومحاربتها مبنية على
الزاوية الخاصة التي اتخذها كأساس لجميع الأعمال السياسية، ألا وهي نشر الدعوة
الإسلامية وإزاحة العقبة الرئيسية التي تحول دون هذا النشر بمختلف الأعمال
السياسية والحربية.
ولكن بعد معركة أحد وخسارة المسلمين فيها تغيرت الأوضاع
السياسية والأمنية في المدينة وما حولها، وطمع أعداء جدد في المس بمكانة الدولة
الإسلامية، وتمردت بعض القوى المحلية، واندلعت اضطرابات جديدة باتت تقترب من مركز
الدولة الاسلامية، ولمعالجة هذه المستجدات غيَّر الرسول r في خططه، وتبنى استراتيجية ثانية اتخذ منها
زاوية للعمل تتناسب مع الظروف الجديدة التي وجدت، ويمكن تلخيصها في القضاء على
الاضطرابات الداخلية وتحصين الجبهة الداخلية، فقام عليه السلام بعدة أعمال سياسية
وحربية وكان أهمها:
أ) الإغارة على
بني أسد الذين خططوا لغزو المدينة، وإلحاق الهزيمة بهم، وإنهاء خطرهم تماماً.
ب) تدبير خطة
ناجحة لاغتيال خالد بن سفيان الهذلي الذي كان يجمع الناس لقتال المسلمين.
جـ) إجلاء يهود
بني النضير عن المدينة بعد أن أخلّوا بالمعاهدة مع الرسول r.
وبهذه الأعمال أعاد الرسول r الهيبة للدولة الإسلامية.
وبعد نجاح هذه الإستراتيجية الثانية تعرض وجود الدولة
الإسلامية نفسه للخطر بسبب تحالف قريش وغطفان وتواطؤ يهود بني قريظة مع هذا
التحالف الخطر في وقعة الخندق فاتخذ الرسول r إستراتيجية ثالثة مبنية على تفكيك هذا
التحالف ولو بتقديم التنازلات، واستخدام كل الوسائل المتاحة لتحقيق هذا الهدف،
فعرض على غطفان ثلث ثمار المدينة، وحفر الخندق، وحمل الصحابة على الصمود في أصعب
الظروف، وعلّمهم الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله وحده، وكانت نتيجة هذه
الإستراتيجية أن نجا المسلمون من هذا الكرب العظيم الذي لم يصابوا بمثله من قبل
قط، وما أن زال ذلك الكرب الشديد حتى أمر الجيش بالهجوم على يهود بني قريظة فقال:
"من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة" وما هي إلا
أيام قليلة حتى تحولت بنو قريظة إلى أثر بعد عين.
ثم لما بلغه عليه السلام أخبار عن تواطؤ حصل بين قريش
ويهود خيبر على غزو المسلمين وضع إستراتيجية رابعة رسم فيها خطة موادعة مع قريش وذلك
ليحقق هدفين محددين وهما:
1) عزل قوة يهود
خيبر عن قريش وتفكيك التحالف بينهما.
2) أن يخلي بينه
عليه السلام وبين سائر قبائل العرب في الجزيرة لتسهيل نشره الدعوة الإسلامية.
وأثمرت هذه الاستراتيجية عن صلح الحديبية الذي كان فتحاً
مبيناً للمسلمين، وتحققت الأهداف المطلوبة من هذه الاستراتيجية، وانتهت في النهاية
ليس في القضاء على خيبر وحسب وإنما في القضاء على قريش نفسها.
لم يتوقف الرسول r عن رسم الخطط ووضع الإستراتيجيات المبنية
جميعاً على زاوية خاصة وهي نشر الدعوة الإسلامية، بل إنّه وضع هذه المرة استراتيجية
خاصة تتعلق بالدول العظمى آنذاك وهي فارس والروم، فأرسل الرسل إليها، وبدأ بالاحتكاك
معها، وإيجاد علاقات أسّست لإيجاد أعمال سياسية وحربية خاضها معها، وكانت معركة
مؤتة تتويجاً لها، ثم تبعتها غزوة تبوك التي كانت فاتحةً لما تلتها من فتوحات
إسلامية كبرى قام بها المسلمون بعد التحاقه r بالرفيق الأعلى.
وهكذا فإن الأعمال السياسية التي تقوم بها الدولة
الإسلامية يجب أن تستند دوماً إلى زاوية خاصة وهي نشر الدعوة الإسلامية، ويجب أن
تكون هذه الزاوية شاملة للنظرة إلى العالم في كل حوادثه، كما يجب أن تُبنى كل
الإستراتيجيات والخطط على أساس هذه الزاوية.
ومن خلال استراتيجيات العمل السياسي التي استخدمها
الرسول r في الدولة
الإسلامية الاولى نجد أن أبرز ملامحها تركزت على القواعد التالية:
1- تحديد العدو الرئيسي
للدولة الذي يجب حصر الأعمال السياسية تجاهه.
2- الحرص على
عدم فتح جبهات مع أعداء كثر في نفس الوقت، والعمل على تفكيك التحالفات التي تنشأ
بين القوى المعادية للإسلام بقدر الإمكان والتفرد بها عدواً عدواً.
3- حفظ هيبة
الدولة باستمرار ولو أدّى أحياناً إلى الانكفاء وتحصين الجبهة الداخلية إذا تعرضت
للخطر.
4- العمل على إنشاء
علاقات دولية جديدة وعلى إبقاء حضور دولي فاعل للدولة في المسرح الدولي.
5- الإعداد الدائم
والجاهزية العالية للقتال مع المواظبة على بناء قوة ردع ذاتية ضاربة باستمرار.
6- تطوير
الاستراتيجيات بشكل دائمي وفقاً للمتغيرات السياسية والأمنية.
هذه هي أبرز إستراتيجيات العمل السياسي لدى الدولة
الإسلامية في أي زمان ومكان مستقاة من سيرة رسول الله r في بنائه للدولة الإسلامية الأولى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق