الأربعاء، 30 يناير 2013


فطاني وأخواتها جنوبي تايلاند

المسلمون الخاضعون للاحتلال التايلندي موجودون في خمس مناطق جنوبي دولة تايلاند التي يغلب على سكانها الديانة البوذية والتي تتآمر حكوماتها مع أمريكا والدول الغربية والحكام المسلمين العملاء ضد المسلمين في هذه المناطق الخمسة وهي: فطاني ويالا وناريثاوات وساتون وسونغكلا.
وجغرافياً تقع هذه الأقاليم بين تايلاند وماليزيا وعدد سكانها يقارب الثمانية ملايين نسمة، وينحدر غالبية سكانها من العرقية المالاوية وهي نفس العرقية التي تقطن ماليزيا وإندونيسيا، ويفترض أن تتبع هذه المناطق ماليزيا لأنها امتداد طبيعي جغرافي لها.
دخل الإسلام إلى هذه المناطق في القرن الثاني عشر الميلادي عن طريق التجار العرب والهنود كانوا همزة وصل مع مسلمي ماليزيا. وفي العام الثامن الهجري بما يوافق العام 1457م تكونت أول سلطنة إسلامية في فطاني بعد أن أسلم ملكها مظفر شاه.
وهذه الأراضي الإسلامية حباها الله سبحانه وتعالى بالكثير من الخيرات كالذهب والتنجستن والمنغنيز والغاز الطبيعي وبكثير من المحاصيل الزراعية وأهمها المطاط وجوز الهند وجميع أنواع الفاكهة الاستوائية.
خضعت هذه المناطق الإسلامية مع تايلاند في القرن التاسع عشر للاستعمار البرتغالي والاستعمار الإنجليزي، وفي العام 1932م منحت بريطانيا الاستقلال لتايلاند تحت اسم مملكة سيام.
عمل الاستعمار البريطاني والبرتغالي على دمج منطقة فطاني وأخواتها يالا وناريثاوات وساتون وسونغكلا مع تايلاند.
قاوم مجاهدو فطاني الاستعمار البريطاني والبرتغالي كما قاوموا ضم المناطق الإسلامية إلى دولة تايلاند البوذية وكان آخر حكام فطاني الأمير عبد القادر قد قاد الثورة في العام 1321 هجري ضد ضم هذه المناطق إلى تايلاند فقمعت ثورته من قبل الإنجليز والتايلانديين بوحشية بالغة واعتقل وكسرت شوكة المقاومة بالحديد والنار.
في العام 1933م تحولت تايلاند إلى النظام الجمهوري وزاد القمع والتنكيل بالمسلمين في محاولة لإذابة هويتهم الإسلامية، فقامت الجمهورية بتغيير الأسماء الإسلامية إلى أسماء بوذية وفرضت عليهم اللغة التايلاندية بدلاً من اللغة المالاوية التي تكتب بحروف عربية. وأغلقت المدارس الدينية والجامعات والمدارس وحوربت الدعوة إلى الإسلام. وتوالت الثورات الإسلامية ضد تايلاند ومنها حركة الحاج محمد سولونج التي قمعت بشدة واعتقل الحاج يولونج وتم قتله بعد اعتقاله.
تجددت المقاومة في العام 2004 وَ 2006 بعد أن قام البوذيون بقتل مائة مسلم في صلاة الفجر داخل المسجد، وبعد أن قتل حوالي ثمانين مسلماً من المحتجين ضد الحكومة وهم مقبوض عليهم في حافلات قوات الأمن، وكان رئيس الوزراء السابق تاكسين شيتاوترا يقود حملة القمع الجديدة ضد مسلمي جنوب تايلاند.
وفي محاولة من الحكومة التايلاندية لكسر شوكة المسلمين في الجنوب قامت بتهجير التايلانديين البوذيين للاستيطان في مناطق المسلمين، كما قامت بفتح المناطق الإسلامية للسياحة الجنسية ولنشر الدعارة والرذيلة فيها من أجل تحطيم القيم الإسلامية وتلطيخ المجتمع الإسلامي بقاذورات الحضارات البشرية المنحطة.
إن واقع فطاني وأخواتها من المناطق الإسلامية جنوبي تايلاند قد تآمر عليها المستعمر الغربي وتعاون معه حكام تايلاند المجرمون الذين وضعوا أنفسهم في خانة الأعداء الأصليين للأمة الإسلامية. وما جعل هذه المؤامرة تمر بهدوء سكوت حكام المسلمين وبشكل خاص حكام إندونيسيا وماليزيا الذين يتحملون الوزر الأعظم في ضياع فطاني وأخواتها خاصة وأن أهلها هم امتداد للشعوب المالاوية في ماليزيا وإندونيسيا.
وكان أكبر المتآمرين من حكام المسلمين بشكل أخص حكام ماليزيا الذين تعتبر بلادهم امتداد طبيعي للمناطق الإسلامية جنوب تايلاند فالأولى أن تضم هذه المناطق إلى ماليزيا التي تعتبر وطناً طبيعياً لمسلمي فطاني وجنوب تايلاند.
فسكوت حكام ماليزيا على سلخ هذه المناطق من أراضيها وعدم المطالبة بضمها إليها وعدم تحريك القوات الماليزية لدعم هؤلاء المسلمين وتركهم فريسة سهلة لانتقام البوذيين منهم وتشويه هويتهم الإسلامية كل ذلك ما كان ليحصل لولا سكوت حكام ماليزيا المجاورة لهؤلاء المسلمين المستضعفين.
إن الرأي الإسلامي الواضح في هذه المسألة هو استعادة فطاني وما حولها من مناطق جنوبي تايلاند إلى عمقها ومحيطها الإسلامي في ماليزيا، بمعنى أن على ماليزيا المطالبة والعمل على إعادة هذه المناطق إلى وطنهم الأم في ماليزيا. فإنه من العجب العجاب أن تترك هذه البلاد لتحكم من قبل الأعداء البوذيين بينما أقاربهم وإخوانهم في الدين في ماليزيا المجاورة لا يعمل حكامهم شيئاً لإنقاذهم.
فإذا قصَّر حكام ماليزيا وإندونيسيا في القيام بهذا الواجب فيكون على البلاد الإسلامية الأقرب القيام بذلك، وإذا قصرت تلك البلدان القريبة بهذا الواجب انتقل الوجوب إلى سائر الأقطار الإسلامية.
إن حزب التحرير يرى أنه يجب الإسراع في القيام بهذا الفرض فرض تخليص المسلمين في جنوبي تايلاند من قبضة البوذيين الموجهين من قبل أمريكا والغرب لإضعاف المسلمين وتفتيت بلدانهم والحيلولة دون وحدتهم.
فدولة الخلافة الإسلامية التي ستقام في العالم الإسلامي ستسعى منذ اللحظة الأولى على قيامها للعمل على إعادة ضم فطاني وأخواتها إلى جسم الدولة بالعمل السياسي أولاً ثم بالعمل العسكري وإعلان الجهاد ضد تايلاند إذا رفضت التخلي عن تلك المناطق.




الاثنين، 28 يناير 2013




تركستان الشرقية
 
تقع تركستان الشرقية في وسط آسيا، ويحدها من الشمال روسيا ومن الغرب تركستان الغربية التي تشمل اليوم أربع جمهوريات وهي كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقرقيزيا. ويحدها من الجنوب الهند  وباكستان والتبت ومن الشرق الصين ومن الشمال الشرقي دولة منغوليا.
وتبلغ مساحة تركستان الشرقية 1.83 مليون متر مربع وتعادل مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة فرنسا.
وتحوي أراضي تركستان ثروات خيالية أهمها البترول الذي يوجد 8 مليارات طن كاحتياطي مضمون فيها إضافة إلى 118 نوع من المعادن منها الذهب والفحم والملح.
ويوجد في تركستان الشرقية أراضي خصبة تقع على طول نهر تاريم الذي يبلغ طوله 1600 كيلو متر، كما يوجد فيها صحراء شاسعة أجرت الصين فيها 48 تجربة نووية.
وصل الإسلام إلى تركستان الشرقية في القرن الهجري الأول على يد القائد قتيبة بن مسلم الباهلي ما بين العامين 88 وَ 96 للهجرة.
في العام الهجري 323 الموافق للعام الميلادي 943م أسلم ستوق بغراخان حاكم الدولة القراخانية وأسلم معه أكثر من 200000 عائلة أي ما يقارب المليون نسمة.
وأما حفيده هارون بن موسى بغراخان الذي صار سلطاناً للدولة فضرب النقود باسمه في العام 332هـ الموافق 992م وحوَّل الكتابة باللغة الايجورية إلى الحروف العربية.
وفي العام 1043م استمالت الدولة الإسلامية القراخانية خمسين ألفاً إلى الإسلام وأعلنت الولاء للدولة العباسية في بغداد وأصبح أئمة المساجد يدعون للخليفة العباسي على المنابر في إشارة إلى الدخول في دار الإسلام والانضمام إلى دولة الخلافة لتكون ولاية شرعية ضمن ولايات الدولة الإسلامية الكبرى.
ومن السلاطين البارزين لهذه الدولة والذين قارعوا الكفار في المنطقة السلطان علاء الدين محمد الخوازمي الذي سجل أروع انتصاراته في موقعة تراز جنوب كازاخستان، وكانت تركستان الشرقية وتركستان الغربية في تلك الأثناء أراضي إسلامية واحدة غير مقسمة.
ومع ضعف الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر الميلادي قامت الصين بغزو تركستان الشرقية وبالتحديد في العام 1759 ميلادي فتغلغل نفوذها في الأراضي التركستانية وتغلبت جزئياً على المقاومة وذلك بعد أكثر من مائة عام من اندلاع المواجهات.
واستطاعت الصين في العام 1864م أن توسع نفوذها تدريجياً في تركستان الشرقية إلى أن قاد الإمبراطور الصيني تسو تسونج الهجوم الشامل على تركستان الشرقية ما بين العامين 1880 وَ 1884 ونجح في الاستيلاء عليها واعتبرها المقاطعة التاسعة عشر للصين وسمّاها سينكيانج أي المستعمرة الجديدة.
واستمرت المواجهة بعد الاحتلال الصيني لتركستان الشرقية ونجحت في طرد الصينيين منها وفي إعلان الاستقلال بعد مقاومة شرسة استمرت ما بين 1933م – 1944م وأصبحت تركستان الشرقية دولة مستقلة تنتظر الاعتراف الدولي بها رسمياً.
إلا أن الصينيين تآمروا مع الروس بعد الحرب العالمية الثانية على تقاسم المنطقة فسيطر الشيوعيون الروس على أراضي تركستان الشرقية التي تشمل جمهوريات كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقرقيزيا وسيطر الشيوعيون الصينيون على تركستان الشرقية وذلك في العام 1949م وعادت تركستان الشرقية إلى النفوذ الصيني تحت اسم سينكيانغ.
اتبعت الصين الشيوعية في تركستان الشرقية سياسة تخفيض أعداد السكان المسلمين وتشجيع هجرة الصينيين من قومية الهان الأكثر عدداً إليها، واستخدمت أساليب الإعدامات والاعتقالات ومحاربة الرموز الإسلامية وشتى أنواع التنكيل وذلك لمنع استمرار وجود الأكثرية للمسلمين في الإقليم.
وعلى سبيل المثال ففي العام 1940 كانت نسبة المسلمين في الإقليم 95% وبعد العام 1949م انخفضت هذه النسبة مباشرة إلى 90% ثم انخفضت في العام 1983م إلى 55% وانخفضت في هذه الأيام النسبة إلى أقل من 40% بما يعادل 16 مليون نسمة بينما يبلغ عدد الصينيين هناك حوالي 24 مليون نسمة.
إن سكان تركستان الشرقية الذين تم تشتيتهم وإذلالهم وجعلهم غرباء في ديارهم يستغيثون ويستنصرون المسلمين منذ أكثر من مائتي عام ولا يجدون من ينجدهم ويغيثهم ويدافع عنهم والله سبحانه وتعالى يفرض على الأمة الإسلامية نصرتهم. قال تعالى: )وَإِنِاسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ( لذلك كان واجباً على المسلمين في كل مكان أن يبذلوا النفس والنفيس من أجل تحريرهم وأن يهبوا هبة رجل واحد ليخلصوهم من نير الاحتلال الصيني الشيوعي الكافر الذي استباح بلادهم وأهدر كرامتهم ودنس مقدساتهم وسرق ثرواتهم.
إن حزب التحرير يتبنى حل مشكلة تركستان الشرقية بإعلان المسلمين الجهاد ضد الصين لتحرير تركستان كاملة من براثن الاحتلال الصيني وتوحيدها مع جناحها الغربي في دولة الإسلام ليطبق فيها أحكام الإسلام وتصبح جزءاً من دار الخلافة الإسلامية فتعاد للمستضعفين في تركستان كرامتهم المهدورة وهيبتهم المفقودة وتعود الحملات الجهادية ضد الكفار الصينيين من جديد وتحمل رايات الجهاد في آسيا مرة ثانية كما حملت منذ أيام قتيبة بن مسلم الذي فرض على الصين دفع الجزية وداس على ترابها وبرّ بقسمه وأنسى الصينيين وساوس شياطينهم.

الخميس، 24 يناير 2013

القدس من منظور إسلامي



القدس من منظور إسلامي

مقدمة :
    إن الرؤية الإسلامية لأي أمر من الأمور، أو مسألة من المسائل، تستند عادة إلى المفاهيم الشرعية المأخوذة من النصوص الشرعية ( الكتاب والسنة )، فالبحث في مسألة القدس - على سبيل المثال -  هو كالبحث في أي مسألة شرعية أخرى تحتاج إلى النظر في النصوص الشرعية ( الآيات والأحاديث الصحيحة ) والتوصل منها بالاستدلال الصحيح  إلى المعاني والأحكام الشرعية الخاصة بها.
   والنصوص الشرعية التي تناولت هذا الموضوع هي نفس النصوص التي عالجت موضوع المسجد الأقصى بما له من قدسية - سنأتي على ذكرها-، وهي ذات النصوص التي عالجت موضوع القدس أو بيت المقدس باعتبارها المدينة الحاضنة للمسجد الأقصى، ومن هنا كانت أهمية القدس بالدرجة الأولى في الإسلام مرتبطة بقدسية المكان ليس إلاّ.
 واضافة إلى ذلك هناك أهمية أخرى للقدس تتعلق بالرباط والجهاد كونها منطقة من مناطق الثغور المواجهة للأعداء، ولكنها في هذه الحالة لا تختلف من حيث الأهمية عن سائر الثغور الأخرى، بمعنى أن البحث في هذه الحالة لا علاقة له بموضوع القدسية وانما له علاقة بمفاهيم الجهاد.
العرض: إستقراء النصوص :
أولاً : الآيات القرآنية الكريمة

  1. قال تعالى : " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ( 1 ) "الاسراء
    يقول
    ابن كثير في تفسيره القرآن العظيم:
    "يمجد تعالى نفسه ، ويعظم شأنه ، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه ، فلا إله غيره ( 
    الذي أسرى بعبده ) يعني محمدا ، صلوات الله وسلامه عليه ) ليلا  أي في جنح الليل من المسجد الحرام ) وهو مسجد مكة ( إلى المسجد الأقصى ) وهو بيت المقدس الذي هو إيلياء) ، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل". 
في هذه الآية الكريمة يُقرن الله سبحانه وتعالى بين المسجد الأقصى وبين المسجد الحرام في موضوع عقائدي وهو معجزة الإسراء، وهذا الاقتران يعني أن قدسية المسجدين واحدة، وأن حرمتهما واحدة، وانهما من ناحية عقائدية يعادلان في أهميتهما أهمية العقيدة نفسها، فدلالة الآية قطعية في اعتبار قدسية المكان وفي بركته.
وبناء على هذا الفهم لا يكون المسجد الأقصى وما حوله جزءاً لا يتجزأ من دار الاسلام وحسب، بل ويكون أيضاً جزءاً لا يتجزأ من عقيدة المسلم كونه تعلق بمعجزة الاسراء، وورد النص عليه في القرآن الكريم بالدلالة القطعية الثبوت القطعية الدلالة.

يقول عبد الله بن عبد المحسن التركي في تفسيره الميسر لهذه الآية:
"سيقول الجهال وضعاف العقول من اليهود وأمثالهم, في سخرية واعتراض: ما الذي صرف هؤلاء المسلمين عن قبلتهم التي كانوا يُصَلُّون إلى جهتها أول الإسلام;(وهي "بيت المقدس") قل لهم -أيها الرسول-: المشرق والمغرب وما بينهما ملك لله, فليست جهة من الجهات خارجة عن ملكه, يهدي مَن يشاء من عباده إلى طريق الهداية القويم. وفي هذا إشعار بأن الشأن كله لله في امتثال أوامره, فحيثما وَجَّهَنا تَوَجَّهْنا".وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) 
"وكما هديناكم -أيها المسلمون- إلى الطريق الصحيح في الدين, جعلناكم أمة خيارًا عدولا لتشهدوا على الأمم في الآخرة أن رسلهم بلَّغتهم رسالات ربهم, ويكون الرسول في الآخرة كذلك شهيدًا عليكم أنَّه بلَّغكم رسالة ربه. وما جعلنا -أيها الرسول- قبلة "بيت المقدس" التي كنت عليها, ثم صرفناك عنها إلى الكعبة بـ "مكة", إلا ليظهر ما علمناه في الأزل؛ علما يتعلق به الثواب والعقاب لنميز مَن يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيث توجهت, ومَن هو ضعيف الإيمان فينقلب مرتدًا عن دينه لشكه ونفاقه. وإن هذه الحال التي هي تحول المسلم في صلاته من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة لثقيلة شاقة إلا على الذين هداهم ومنّ عليهم بالإيمان والتقوى وما كان الله ليضيع إيمانكم به واتباعكم لرسوله, ويبطل صلاتكم إلى القبلة السابقة. إنه سبحانه وتعالى بالناس لرءوف رحيم".قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) 
"قد نرى تحوُّل وجهك -أيها الرسول- في جهة السماء, مرة بعد مرة; انتظارًا لنزول الوحي إليك في شأن القبلة, فلنصرفنك عن "بيت المقدس" إلى قبلة تحبها وترضاها, وهي وجهة المسجد الحرام بـ "مكة", فولِّ وجهك إليها. وفي أي مكان كنتم -أيها المسلمون- وأردتم الصلاة فتوجهوا نحو المسجد الحرام. وإن الذين أعطاهم الله علم الكتاب من اليهود والنصارى لَيعلمون أن تحويلك إلى الكعبة هو الحق الثابت في كتبهم. وما الله بغافل عما يعمل هؤلاء المعترضون المشككون, وسيجازيهم على ذلك".وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) 
"ولئن جئت -أيها الرسول- الذين أُعطوا التوراة والإنجيل بكل حجة وبرهان على أن توجُّهك إلى الكعبة في الصلاة هو الحق من عند الله, ما تبعوا قبلتك عنادًا واستكبارًا, وما أنت بتابع قبلتهم مرة أخرى, وما بعضهم بتابع قبلة بعض. ولئن اتبعت أهواءهم في شأن القبلة وغيرها بعد ما جاءك من العلم بأنك على الحق وهم على الباطل, إنك حينئذ لمن الظالمين لأنفسهم. وهذا خطاب لجميع الأمة وهو تهديد ووعيد لمن يتبع أهواء المخالفين لشريعة الإسلام". – انتهى الاقتباس -
تُفيد هذه النصوص القرآنية بالدلالة القطعية أنّ المسجد الأقصى كان قبلة المسلمين الأولى، كما كان قبلة بني اسرائيل من قبل، وهو ما يؤكد أهميته في عقيدة المسلمين وعبادتهم على حد سواء. وهذه الآيات وحدها دليل قاطع على اعتبار مدينة القدس واحدة من ثلاث مدن يُقدسها المسلمون كونها تحوي في جنباتها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ولهذا كان من الاستحالة على أي مسلم مهما كان وضيعاً أن يُجاهر بالتفريط بها، أو بالتنازل عن شبر منها، لأنّ الدفاع عنها هو دفاع عن العقيدة الاسلامية نفسها، والموت في سبيل الذود عنها هو موت من أجل الذود عن الاسلام نفسه.
ثانياً: الأحاديث النبوية الشريفة
1 –  قال رسول الله صلى الله عيه وسلم:"  لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومسجد الأقصى" .
الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 1189
خلاصة حكم المحدث: [صحيح
الحكم الشرعي المستفاد من هذا الحديث هو حصر شد الرحال في هذه المساجد الثلاثة فقط، وحرمة شد الرحال إلى غيرها، وهو ما يعني اعطائها ميزة تكريمية إلى يوم القيامة تجعل الأجيال المتعاقبة من المسلمين ترنو إليها وتسعى قصداً إليها دون غيرها.
2 - قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : ( المسجد الحرام ) . قال : قلت : ثم أي ؟ قال : ( المسجد الأقصى ) . قلت : كم كان بينهما ؟ قال : ( أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله ، فإن الفضل فيه.
الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3366
خلاصة حكم المحدث: [صحيح
يُستفاد من هذا الحديث أن المسجد الأقصى هو ثاني مسجد بني في الأرض، ومن هنا أصبح يقٌال عنه ثاني المسجدين، إلى جانب قولنا أولى القبلتين وثالث الحرمين وفي هذا تشريف إضافي من الله سبحانه وتعالى لهذا المسجد.
3 - وعن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس فقال أرض المنشر والمحشر ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه قالت أرأيت من لم يطقْ أن يتحمل إليه أو يأتيه؟ قال فليهد إليه زيتاً يسرج فيه فإن من أهدى له كان كمن صلى فيه (رواه أحمد 6/463 وابن ماجه 1/429).
لهذا الحديث ثلاث دلالات : الأولى تكريم أرض بيت المقدس من دون سواها من الأرضين بأنها أرض المحشر والمنشر. والثانية مضاعفة ثواب من يُصلي في الأقصى بألف ضعف. والثالثة: اعتبار من يهدي للأقصى شيئاً كمن صلّى فيه شريطة أن يكون عاجزاً عن الوصول إليه.
4 -  روى الإمام أحمد عن معقل بن أبي معقل الأسدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط 4/210.
يُفيد هذا الحديث وجوب تنزيه القبلتين وهما الكعبة والمسجد الأقصى عن استقبالهما أو استدبارهما عند قضاء الحاجة.
5- وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل 5/269 (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من البلاء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك قالوا يا رسول الله وأين هم قال في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
في هذا الحديث إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجود الطائفة المنصورة في بيت المقدس.
6 – قال صلّى الله عليه وسلم:" من أهلّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر الله ما تقدم من ذنبه أو وجبت له الجنة ". رواه أبو داوود.
ودلالة هذا الحديث واضحة في تحقق مغفرة عظيمة لمن يبدأ شعائر الحج أو العمرة من بيت المقدس.
7-  وروى البزاز والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعة الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ،و الصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة " قال البزاز: إسناده حسن .
الدلالة هنا واضحة في مضاعفة أجر المسلم الذي يتقصد الصلاة في المسجد الأقصى.
8 - عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثا: حكما يصادف حكمة، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه؛ إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة".
(أحمد والهيثمي).
يفيد هذا الحديث - بالإضافة إلى تكفير الذنوب لمن يُصلي فيه- أنّه كان مكاناً للعبادة في زمن نبي الله سليمان.
9 - عن ذي الأصابع رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: "إن ابتلينا بعدك بالبقاء أين تأمرنا؟ قال: "عليك ببيت المقدس، فلعله ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذاك المسجد ويروحون".)أحمد  والهيثمي.(
في هذا الحديث دعوة صريحة من النبي محمد صلى الله عليه وسلم للمسلمين للسكن بالقدس.
10 - عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يا أبا ذر كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟ قال: قلت إلى السعة والدعة، أنطلق حتى أكون من حمام مكة، قال: كيف تصنع إن أخرجت من مكة؟ قال: قلت إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدسة، قال: وكيف تصنع إن أخرجت من الشام؟ قال: قلت والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي".(أحمد والهيثمي).
لهذا الحديث دلالاتان وهما: أنّ الأصل في القدس أن تكون ملاذاً آمناً للمسلمين، والثانية أنّ بلاد الشام كلها كالقدس في هذا المعنى.
11 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم ظاهرين على الحق - إلى أن تقوم الساعة".
(أبو يعلى).
يدل هذا الحديث على أنّ دمشق والقدس مشتركتان في احتضانهما في زمن من الأزمان لمجموعة من المسلمين تُقاتل الأعداء رغم خذلان الناس لهم حتى انتهاء الحياة الدنيا.
12 - عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسـي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعـته بصري، فعمد به إلى الشـام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام".
(أحمد، والهيثمي).
التأكيد في هذا الحديث على أنّ القدس هنا جزء من بلاد الشام وأن تلك البلاد حاضنة للمؤمنين وقت المحن.
13 - عن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: "يا ابن حوالة: إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة، فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور والعظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك".
(أحمد وأبو داود والحاكم).
يخبر هذا الحديث بأنّ دولة الخلافة الاسىلامية ستعود، وستكون بلاد الشام بما فيها القدس مستقراً لها، وأنّه بعد قيامها ستحدث الزلازل والابتلاءات والأمور العظيمة ومنها قرب قيام الساعة.
في هذا الحديث أخبار عن فتح المسلمين للقدس وعن حروب عظيمة ستقع بين المسلمين وبني الأصفر.
14 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال : تذاكرنا - ونحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيهما أفضل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أم بيت المقدس؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً". أو قال: "خير له من الدنيا وما فيها".
(أخرجه الحاكم) وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني. ودلالته مرّ الحديث عن مثلها في حديث سابق.
15 - سمعت عمر يقول لكعب:" أين ترى أن أصلي؟ قال إن أخذت عني صليت خلف الصخرة وكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلى، ثم جاء فبسط ردائه وكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس".
الراوي: عمر بن الخطاب المحدث: ابن كثير - المصدر: البداية والنهاية - الصفحة أو الرقم: 7/60
خلاصة حكم المحدث: إسناده جيد.
 وفي رواية اخرى لنفس الحديث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بالجابية فذكر فتح بيت المقدس قال : فقال أبو سلمة فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لكعب : "أين ترى أن أصلي؟ فقال إن أخذت عني صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلها بين يديك فقال عمر رضي الله عنه: ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلى، ثم جاء فبسط رداءه فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس".
الراوي: عبيد بن آدم و أبو مريم و أبو شعيب المحدث: أحمد شاكر - المصدر: مسند أحمد - الصفحة أو الرقم: 1/136
خلاصة حكم المحدث: إسناده حسن.
في هذه الأحاديث دلالة صريحة بأن الصخرة كانت قبلة لليهود، كما فيها دلالة بأن المسجد الأقصى عند فتحه من قبل المسلمين في عهد عمر رضي الله عنه،لم يكن مكان عبادة لا لليهود ولا لغيرهم، وكان مهملاً وغير صالح للعبادة، ويتبين ذلك من خلال استعراض فتح بيت المقدس في العام 15 للهجرة على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ثالثاً: فتح بيت المقدس على يدي عمر بن الخطاب
"ذكره أبو جعفر بن جرير في هذه السنة عن رواية سيف بن عمر، وملخص ما ذكره هو وغيره: أن أبا عبيدة لما فرغ من دمشق كتب إلى أهل إيليا يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، أو يبذلون الجزية، أو يؤذنون بحرب، فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه، فركب إليهم في جنوده، واستخلف على دمشق سعيد بن زيد، ثم حاصر بيت المقدس وضيق عليهم حتى أجابوا إلى الصلح، بشرط أن يقدم إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فكتب إليه أبو عبيدة بذلك فاستشار عمر الناس في ذلك فأشار عثمان بن عفان بأن لا يركب إليهم ليكون أحقر لهم وأرغم لأنوفهم .وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم، فهوي ما قال علي ولم يهو ما قال عثمان. وسار بالجيوش نحوهم واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب، وسار العباس بن عبد المطلب على مقدمته، فلما وصل إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورؤس الأمراء، كخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، فترجل أبو عبيدة، وترجل عمر، فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر، فهم عمر بتقبيل رجل أبي عبيدة، فكف أبو عبيدة فكف عمر.
ثم سار حتى صالح نصارى بيت المقدس، واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث، ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله  ليلة الإسراء. ويقال: إنه لبى حين دخل بيت المقدس، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد، فقرأ في الأولى بسورة ص، وسجد فيها والمسلمون معه، وفي الثانية بسورة بني إسرائيل، ثم جاء إلى الصخرة فاستدل على مكانها من كعب الأحبار، فأشار عليه كعب أن يجعل المسجد من ورائه، فقال: ضاهيت اليهودية، ثم جعل المسجد في قبلي بيت المقدس وهو العمري اليوم، ثم نقل التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائة، ونقل المسلمون معه في ذلك وسخر أهل الأردن في نقل بقيتها، وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلة لأنها قبلة اليهود، حتى أن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة، وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة وهي المكان الذي كانت اليهود صلبوا فيه المصلوب، فجعلوا يلقون على قبره القمامة فلأجل ذلك سمي ذلك الموضع القمامة، وانسحب هذا الاسم على الكنيسة التي بناها النصارى هنالك. وقد كان هرقل حين جاءه الكتاب النبوي وهو بإيلياء وعظ النصارى فيما كانوا قد بالغوا في إلقاء الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود، قال لهم: إنكم لخليق أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتم هذا المسجد كما قتلت بنو إسرائيل على دم يحيى بن زكريا، ثم أمروا بإزالتها، فشرعوا في ذلك فما أزالوا ثلثها حتى فتحها المسلمون، فأزالها عمر بن الخطاب، وقد استقصى هذا كله بأسانيده ومتونه الحافظ بهاء الدين بن الحافظ أبي القاسم بن عساكر في كتابه (المستقصى في فضائل المسجد الأقصى)".
وقد لخّص قصة فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبيت المقدس زكريا عبد ربه في كتابه: - القدس.. تاريخها ومكانتها – بقوله:
 "في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتصر المسلمون في معركة أجنادين على الروم، وانهزم قائدهم (الأربطون) ولجأ إلى القدس، فتركه أبو عبيدة رضي الله عنه مؤقتاً وفتح معظم فلسطين، ثم استشار الخليفة الراشد بفتح القدس فأشار عليه فسار إليها وحاصرها أربعة أشهر، ودافع النصارى عن القدس دفاعاً شديداً، ولكنهم يئسوا أمام إصرار المسلمين وصلابتهم في القتال، ووافقوا على تسليم المدينة على أن يكون ذلك لعمر بن الخطاب نفسه. وفعلاً توجّه عمر إلى القدس واستلمها بنفسه من بطريركها الأكبر (صفرونيوس)، وشاهد عمر البطريرط يبكي، فقال له مواسياً: "لا تحزن هوّن عليك فالدنيا دواليك يوم لك ويوم عليك«. فقال صفرونيوس: »أظننتني بكيتُ لضياع الملك؟ والله ما لهذا بكيت، إنما بكيت لما أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية ترقّ ولا تنقطع، فدولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة، وكنتُ أحسبها دولة فاتحين تمر ثم تنقرض مع السنين. وجمع عمر الجموع وخطب فيهم قائلاً: "يا أهل إيلياء لكم ما لنا وعليكم ما علينا"، وكتب لهم وثيقة الأمان والتي عرفت (بالعهدة العمرية)، ثم زار عمر كنيسة القيامة، كما طلب من البطريرك أن يدلّه عن مكان الصخرة، فوجده عبارة عن مكان للقمامة، فراح عمر ينظفها ويحمل الأوساخ بردائه، وفعل بقية المسلمين مثل ما فعل عمر حتى تم تنظيفها، وصلى عمر والمسلمون هناك وأقام المسلمون (مسجد عمر) وهو أساس المسجد الأقصى ويقع كامتداد للأقصى الحالي من الجهة الشرقية، وقد بُنِيَ من الخشب".
الخلاصة
بناء على ما تقدم من نصوص قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة وأفعال وإجماعات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم فيما يتعلق بمدينة القدس يمكن تلخيص الرؤية الاسلامية للقدس بالنقاط التالية:
1 – لم تهتم النصوص الشرعية مطلقاً بماضي المدينة وتاريخها وبمن سكنها من الأقوام قبل مجيئ الاسلام، كما ولم تُراع ما يُسمّى اليوم بالحق التاريخي للشعوب التي استوطنتها، واعتبرت أن القدس أرض إسلامية خالصة منذ تم فتحها على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي أرض مباركة لتقديس الاسلام لها، ولا أهمية للجانب العرقي أو القومي أو الشعوبي في تقرير ملكيتها.
2  - نظر الاسلام للبلاد المفتوحة بما فيها القدس وفلسطين نظرة شرعية محضة لم تكن معروفة من قبل، وهي أن أية بلاد يفتحها الجيش الاسلامي تُعتبر أراض إسلامية خراجية لجميع المسلمين حق فيها، وهي ليست ملكاً للعرب أو الفلسطينيين أو غيرهم وانما هي ملك للأمة الاسلامية جمعاء.
3 - يُعامل الاسلام  المواطنين القاطنين في دار الاسلام من غير المسلمين بالعدل والاحسان معاملة أهل الذمة فلهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما على المسلمين من واجبات شريطة دفع الجزية والخضوع لأحكام الشرع الاسلامي.
4 – بالنسبة للسكن في مدينة القدس بالذات يُمنع اليهود وفقاً للعهدة العمرية من السكن فيها، ولا يُسمح بوجود أي أثر لهم فيها سواء أكان دينياً أم دنيوياً.

وهذا هو نص العهدة العمرية الكامل كما ورد في تاريخ الطبري:
(( هــذا ما أعطى عبد الله عمـر أمـير المؤمـنيـن أهـل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسـهم وصلبانهم ، وسقيمها وبريئها ، وسائر ملتها ، أنه لا تسكن كنائسهم ، ولا تهدم ، ولا ينتقص منها ، ولا من حيزها ، ولا من صليبهم ، ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضار أحد منهم ، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود .وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنه ، ومن أقام منهم فهو آمن ، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية .ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبانهم فإنهم آمنون على أنفسهم ، وعلى بيعهم وصـلبانهم ، حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله ؛ فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم)) .
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله ، وذمة رسوله ، وذمة الخلفاء ، وذمة المؤمنين ، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية .. شهد على ذلك : خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وكتب وحضر سنة خمس عشرة.
الطبري/ ابو جعفر بن جرير- " تاريخ الطبري " تاريخ الرسل والملوك – تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم – الجزء الثالث – دار المعارف بمصر – القاهرة 1960 ص 609.
5 – يُقرر الإسلام أنّ السيادة في القدس هي للمسلمين فقط، ويمنح حق العيش والتمتع بعدل الاسلام لجميع من يقطنها ما عدا اليهود، فالسيادة الاسلامية كل لا تتجزأ، وهي غير قابلة للمشاركة ولا المساومة.
6 – إنّ تغيير الواقع  في القدس كاحتلالها من قبل الانجليز في السابق أو اليهود حالياً لا يُغير من الأحكام الشرعية المتعلقة بها من وجهة النظر الاسلامية، وتبقى القدس أرضاً خراجية يجب تحريرها بالكامل، ولا قيمة لأية قرارات دولية أو أحكام غير شرعية يتداولها زعماء المسلمين حالياً.
المراجع:
1 – القرآن الكريم.
2 – تفسير ابن كثير.
3 – التفسير الميسر.
4 – صحيح البخاري.
5 – مسند ابن حنبل.
6 – سنن ابي داود والبزار والطبراني والحاكم والهيثمي وأبو يعلى.
7 – تاريخ الرسل والملوك للطبري.
8 – البداية والنهاية لابن كثير.
9 -  كتاب : القدس.. تاريخها ومكانتها لزكريا عبد ربه.
10-  كتاب (المستقصى في فضائل المسجد الأقصى) للحافظ بهاء الدين بن الحافظ أبي القاسم بن عساكر.










الاثنين، 21 يناير 2013

الثورات وصراع الارادات

الثورات وصراع الارادات



لا تخلو ثورة من الثورات من وجود صراع إرادات فيها، وغالباً ما يستمر الصراع خلال الثورات لفترة طويلة قبل أن تستقر المجتمعات التي تقع فيها الثورات.
وعندما نقول ثورة فإننا نقصد بها انتفاضة شعب، وحركة جماهير، وعمل جماعي للتغيير وذلك بخلاف الانقلابات العسكرية التي لا توجد بها إرادات شعبية لكونها تحدث داخل المؤسسة العسكرية والتي غالباً ما يكون للدول الخارجية دور فيها.
إن الثورات العربية التي تحدث في المنطقة كشفت عن قوة حقيقية لإرادة الشعوب العربية، وأبرزت قدرتها على التغيير بعدما كان ينظر إليها على أنها شعوب شبه ميتة ولا حراك فيها.
وتتجلى إرادة الشعوب لأول مرة منذ عقود في نجاحها بإسقاط الأنظمة، وخلخلتها، وكسر احتكار السلطة، ورفع سياسات الإذلال التي مورست ضد المجتمعات زمناً طويلاً.
وبالإضافة إلى أن هذه الثورات قد كسرت حواجز الخوف عند الجماهير فهي كذلك أوجدت لديهم أعرافاً جديدة تتعلق بالعمل السياسي طالما كانت غائبة أو مغيبة عنه ردحاً طويلاً من الزمن.
ومن هذه الأعراف التي أفرزتها هذه الثورات تلك الجرأة السياسية التي شهدناها في المحاسبة وعدم التسليم بسهولة بالبدائل المفروضة أو التي يتم ترويجها.
ومنها أيضاً الاستمرارية في تطوير مطالبها وذلك من خلال الارتقاء في المطالب والانتقال فيها من مستوى إلى آخر أعلى منه.
وبما أن الشعوب الثائرة هي شعوب مسلمة فإن الإسلام –وإن كانت شعاراته قد غُيِّبت عن المشهد الثوري- إلا أنه بقي يعمل كقوة كامنة ومحركة للجماهير نحو التغيير ورفض الخنوع والاستسلام للأمر الواقع.
قد يقال إنه بما أن كثيراً من قادة الثوار هم من العلمانيين والوطنيين فالثورة إذاً هي ثورة معادية للإسلام، قد يقال ذلك لكننا نقول إن هذه الثورة هي ملك لكل الجماهير وليس لقادتها فقط، فالذي شارك فيها والذي ساهم في إنجاحها هم عامة الناس، وهم في غالبيتهم من المسلمين المتدينين بالفطرة، ولولاهم لما نجحت الثورات في إسقاط الأنظمة.
إن هذه الجماهير هي التي رضيت بقيادة هؤلاء لم تترض بهم إلا لتحقيق هدف واحد وهو إسقاط الأنظمة، لكنها لم تتفق معهم على إحلال أنظمة غير إسلامية مكان الأنظمة المتساقطة، والدليل على ذلك أنه لما أراد بعض قادة الثوار إلغاء أو تعديل المادة الثانية من الدستور المصري والتي تنص على اعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للدستور رفضت الجماهير التي شاركت في الثورة إسقاط هذه المادة أو تعديلها وظهر ذلك من خلال الاستفتاء الذي أُجري بعد سقوط النظام على التعديلات الدستورية، وهو ما أدّى إلى إبقاء المادة كما هي لم تمس، وفشل بذلك قادة الثوار الذين طالبوا بحذف المادة أو تعديلها.
إنه وبالرغم من أن ذلك لا يُعتبر تطبيقاً للشريعة الإسلامية ولا تأسيساً لقيام الدولة الإسلامية إلا أن ذلك يُعتبر مظهراً حقيقياً على ممارسة الإرادة العامة الشعبية وليس ممارسة إرادة بعض القادة فيها فقط.
إن ما يغلب على الظن أن عملية الصراع في هذه الثورات لا تزال في بدايتها، وسوف يستمر صراع التيارات الفكرية داخل المجتمع، وتستمر معه عملية صراع الإرادات إلى أن تتبلور الإرادة الصحيحة، أو تهيمن على سائر الإرادات الأخرى ولن تكون هذه سوى الإرادة الإسلامية.
هذا بالنسبة لصراع الإرادات الداخلية، أما بالنسبة للصراعات الخارجية والتي تعبث بمقدرات وثورات الشعوب، فهي الإرادات التي تُعبِّر عن القوى الدولية التي تملك نفوذاً في البلدان الثائرة، فهذه أيضاً في حالة تصارع مع بعضها البعض من جهة ومع إرادة الأمة من جهة أخرى.
أما تصارعها فيما بينهما فقد ظهر ذلك جلياً في ثورة ليبيا حيث كان لبريطانيا وفرنسا موقفاً مغايراً تماماً للموقف الأمريكي فيما انقسمت سائر المواقف الدولية الأخرى بين هذين الموقفين. فالإنجليز دفعوا الفرنسيين إلى الصدارة في مواجهة الموقف الأمريكي الذي ظهر تردده إزاء ما يجري في ليبيا حيث تُقدِّم أمريكا رجلاً وتؤخر أخرى، فتارة تقوم بقيادة القوات الدولية، وتارة تترك القيادة لحلف الناتو، وأحياناً تُشارك في العمليات العسكرية بكثافة، وأحياناً أخرى تتراجع وتتلكأ في المشاركة.
ويبدو أن موقفها هذا مبني على أمرين:
الأول:  محاولة تفويت الفرصة على الأوروبيين (البريطانيين والفرنسيين) الذين كانوا يريدون ترتيب الأوراق في ليبيا بسرعة وبدون منغصات.
الثاني:   كونها لا تملك نفوذاً متميزاً في ليبيا كالذي تملكه أوروبا فيها، وهي نفسها قد اعترفت بذلك.
فأمريكا إذاً في موقفها هذا وهو القبض على العصا من المنتصف تريد أن يكون لها نصيب من الكعكة الليبية لا سيما وأن ليبيا تعوم على بحيرة من النفط. إن هذا الصراع بالذات هو الذي يعرقل عملية الحسم في ليبيا.
أما بالنسبة للصراع الأمريكي الأوروبي في الدول الأخرى التي تشهد الثورات ففي تونس حسمت الثورة بسرعة لصالح الأوروبيين ورتبت أوراقها بطريقة سلسة بعيداً عن أعين الأمريكيين. وفي مصر حسمت الثورة بسرعة من خلال الجيش لصالح الأمريكيين لخلوها من تأثير نفوذ أوروبي فاعل فيها.
بينما لم يُحسم الصراع في كل من ليبيا واليمن بسهولة وذلك بسبب وجود النفوذين فيهما وإن كان النفوذ الأمريكي فيهما أقل من النفوذ الأوروبي. وقد برز في ليبيا دور المخابرات الأمريكية والبريطانية ودور القوات الخاصة البريطانية بشكل واضح أثناء اندلاع الثورة وتحولها إلى حرب أهلية. وفي اليمن برزت التدخلات الأمريكية والبريطانية من خلال الرعاية المشتركة الأمريكية والبريطانية أولاً ثم الأمريكية والأوروبية ثانياً للمفاوضات بين الحكومة اليمنية والمعارضين لها. كما برزت من خلال تدخل الدول الخليجية والتي تعمل لصالح الإنجليز في الأزمة اليمنية، وهذه التدخلات الدولية هي أمر لم يخف على أحد من المتابعين للأحداث.
وأما في سوريا فالقبضة الأمنية الشديدة للنظام الحاكم، واستعداد النظام لارتكاب المجازر الجماعية ونزول الجيش إلى المدن كل ذلك يؤشر على أن الوضع في سوريا حساس جداً بالنسبة لأمريكا، لأن سقوط النظام السوري قد يقلب الأمور في المنطقة رأساً على عقب وهو يختلف بالنسبة لأمريكا عن سقوط نظام حسني مبارك في مصر فوجه الاختلاف أن قادة الجيش في مصر موالون لأمريكا وأما أفراده فمن المسلمين الموالون لأمتهم بينما في سوريا لا يمثل الجيش الشعب فهو جيش طائفي وهو والدولة والحاكم شيء واحد، وبالتالي فإن سقوط النظام السوري معناه انتهاء النفوذ الأمريكي كلياً من سوريا، وهذا قد يدخل المنطقة بأسرها في فوضى عارمة لا تملك أمريكا ولا غيرها القدرة على ضبطها، خاصة وأن سوريا تعتبر واسطة العقد في الشرق الأوسط كونها مجاورة (لإسرائيل) ولبنان والأردن والعراق وتركيا، وتغير النظام فيها قد يؤدي إلى الإطاحة بالنفوذ الأمريكي في جميع هذه البلدان وهو أمر تبدو عواقبه وخيمة على الأمريكان،وعلى غيرهم من المستعمرين، لذلك نجد أن أمريكا منذ بداية الانتفاضة في سوريا وهي تبعث برسائل عديدة تؤكد فيها على فكرة عدم ورود تدخلها، أو تدخل حلف الناتو في سوريا مهما كانت الأحداث ساخنة، وهو ما أعطى لنظام الأسد المبرر لزيادة سفك الدماء لقمع الثورة كونه مطمئن إلى عدم وجود أي تدخل دولي فاعل ضد النظام السوري.
وأما دور بريطانيا في سوريا فهو دور يعتمد على عملائها في المنطقة، ويظهر هذا الدور من خلال الدعم الإعلامي اللامحدود للثوار بقيادة هيئة الإذاعة البريطانية وملحقاتها. وتأمل بريطانيا أن تتمكن من الإطاحة بنظام الأسد ليحل مكانه نظام جديد تتحكم فيه من خلال عملائها القدامى من حزب البعث ومن الأحزاب الأخرى الذين ما زالوا مرتبطين بها سياسياً، فهي من المؤكد أنها تتوق لتغيير الأوضاع في سوريا، وستفعل  بالتالي كل ما بوسعها لهذا التغيير.
بيد أن انقطاع النفوذ البريطاني مدة طويلة عن سوريا ممكن أن يؤدي إلى نجاح الثوار في بناء دولة غير موالية لها أو لغيرها من الدول الغربية، وهو ما قد يمهِّد لقيام دولة إسلامية حقيقية فيها ربما تكون فاتحة خير للعالم الإسلامي بأسره.
أما الجانب الآخر من الصراع فهو صراع القوى الغربية مع القوة الإسلامية الكامنة داخل الشعوب العربية والإسلامية والتي ما تزال تثير الذعر لدى الغربيين، وهو أمر يساهم في زيادة العبث بشؤون المسلمين للبحث عن عملاء بمقدورهم إدارة البلاد لصالح الدول الغربية الاستعمارية.
والخلاصة أن صراع الإرادات الخارجية فيما بينها عادة ما ينتهي بنوع من الصفقات في مثل حالتي ليبيا واليمن، فيما يستمر الصراع بين الإرادات الخارجية والداخلية، وبين الإرادات الداخلية نفسها إلى أن يقضي الله أمراً  كان مفعولا.

الاثنين، 7 يناير 2013

أزمة اليورو والديون الأوروبية




أزمة اليورو والديون الأوروبية


إنها أزمة حقيقية ولا شك، فوكالة (ستاندارد أند بورز) للتصنيف الائتماني تقول بأن اليونان صاحبة أسوأ سجل ائتماني مثقلة بالديون ولم يتبق لديها -بالرغم من حزم المساعدات التي قدمت لها- لم يتبق لديها ما يكفي من أموال للوفاء بتلك الديون. فاليونان ذلك البلد الصغير (8ملايين نسمة) تزيد ديونه عن (350) مليار يورو، بما يعادل 160% من إجمالي الناتج المحلي له، وبعجز في الميزانية بلغ 13،6%.
وأما إيطاليا فحجم الدين العام لها بلغ (2,59) تريليون دولار، أي ما يتجاوز 118% من ناتجها المحلي.
بينما وصل ديون الدول الأوروبية الخمسة الأساسية وهي: اليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا وإيرلندا  إلى (3300) مليار يورو.لا شك انها (أرقام فلكية).


يقول الجهاز المركزي الأوروبي للإحصاء (اليوروستات): "إنه منذ اعتماد اليورو فإن حجم الديون يشكّل حقيقة المشكلة، وهو يرتفع في منطقة اليورو بشكل".
لقد ساعد اليورو كعملة أوروبية موحدة في خلق تلك الأزمة ومدّها بأسباب الحياة:
1)  لأنّه السبب في انحدار معدلات الفائدة في دول أوروبا الجنوبية وهو ما شجع دولاً كإيطاليا واليونان على الاستدانة دون ضابط.
2)  ولأنّه السبب في تجريد بلد كاليونان وغيرها من الخيارات التقليدية المستخدمة عادة في احتواء التضخم عبر خفض قيمة العملة.
وتقول دراسة (اليوروستات):
*   لقد ارتفع معدل المتوسط للعجز بالدول الـ17 الأعضاء إلى 6,2 % العام الماضي.
*  وزاد حجم الدين العام في المنطقة من 7,1 تريليون يورو  عام 2009 إلى 7,8 تريليون يورو في عام 2010، ووصل في العام 2011 الى اكثر من 10،5 تريليون يورو .
*  ان استمرارية الزيادة في حجم ديون دول المنطقة يقابلها ارتفاع في نسبة الديون بالنسبة للدخل المحلي العام من  79,8%  إلى  حوالي 100%  في العام الماضي.
*  إن هذه المستويات المرتفعة للديون وعجز الميزانيات بمنطقة اليورو يتجاوز بمراحل المستويات المسموح بها في اتفاقية (ماستريخت) لمعايير الوحدة الأوروبية التي لا تسمح بزيادة الحد الأقصى في عجز الميزانية لدول الاتحاد الأوروبي على 3% والدين العام على 60% من إجمالي الناتج المحلي.
والحقيقة إن مشكلة اليورو مشكلة مركبة، فهو من ناحية عملة ورقية غير مغطاة بالذهب والفضة وشأنها في ذلك شأن سائر العملات الورقية الأخرى، وهو من ناحية أخرى عملة لـِ17 دولة، ولا تستطيع هذه الدول أن تخفض سعره أو ترفع سعره إلا من خلال توافق بينها جميعها يصعب الحصول عليه.
فلو كان اليورو عملة لدولة واحدة لاستطاعت هذه الدولة التحكم والتلاعب به، لكنه لما كان عملة لـِ17 دولة غير متحدة فإنّه تحول إلى عبئ على جميع تلك الدول لكونه عملة جامدة غير مرنة تشترك فيه دول غنية ومصدرة بكثرة كألمانيا ودول أقرب إلى الدول النامية كاليونان.
ان علاقة الديون باليورو هي علاقة أشبه بالطردية، فكلما زاد الدين في دولة من الدول فإن اليورو يثبت ذلك الدين بل ويضاعفه، وبذلك انتقلت المشكلة من الديون إلى اليورو نفسه الذي أصبح جزءاً من المشكلة وليس جزءاً من حلها.
أمّا أصل المشكلة فبدأت كعادة معظم الدول الرأسمالية بالاستدانة للاستمرار في العيش بمستوى أعلى من دخلها وقدرتها أملاً في تحسن الأوضاع الاقتصادية وسداد الدين في المستقبل، وقد توسعت الدول الأوروبية في الاقتراض في العقود الثلاثة الماضية، ولم تعبأ كثيراً بمستويات الدين السيادي الخطر متوقعة حصول تحسن اقتصادي، وما زاد العبء أكثر على تلك الدول هو نشوء أزمة 2008 عندما انفجرت الفقاعة العقارية في أمريكا وهبطت بعض أسعار الأسهم من 90 دولار إلى 1,5 دولار  بعد انهيار (ليمان براذرز) وَ(سيتي غروب)، فقامت حكومات الدول بضخ كميات كبيرة من السيولة في البنوك لخوفها من انهيارها. وتوقعت تلك الدول أن تنفرج الأمور بعد فترة وجيزة فاقترضت، وأقرضت المصارف التي حصلت على الأموال ولكنها لم تقرض الشركات المنتجة والأفراد، فانكشف الاقتصاد، ولم يحصل الناس على التمويل للقيام بالنشاطات الاقتصادية والتجارية،  وتراكمت الديون ولم تأت العوائد، فأصدرت الحكومات سندات لمعالجة المشكلة فحصل عليها المضاربة، ولضعف اقتصاديات هذه الدول ارتفعت الفوائد الربوية على تلك السندات فأحجم المستثمرون عن شرائها، فوقع الكساد وتعاظمت المديونية واقتربت من 100% من الناتج المحلي الإجمالي.
إن علاج الأوروبيين هذا للمشكلة من خلال ضخ الأموال لم يستفد منه الناس ولا الشركات الاستثمارية  لإنتاج السلع الحقيقية، والذي استفاد منه هم فقط  هم كبار مالكي الأسهم وأرباب المصارف الذين حافظوا على ملياراتهم وملايينهم كما هي، ولكنهم لم يساهموا في تنشيط الاقتصاد في بلدانهم.
فإنتاج إيطاليا مثلاً يمر الآن بمرحلة انحدار مروع، والحل الذي يقترحونه بشكل أو بآخر هو هيكلة الديون وبحزمة من الإصلاحات من مثل اجراءات كزيادة الضرائب المفروضة على ممتلكات الأثرياء، ورفع سن التقاعد ومكافحة التهرب وخصخصة مؤسسات تابعة للدولة وتحرير بعض الخدمات المحلية وتخفيض البيروقراطية الإدارية لمساعدة الشركات على النمو هي غير فعاّلة . فهكذا اصلاحات لا تحل المشكلة، وثبت عقمها.  وهذه الهيكلة تتسبب في خسائر مالية كبيرة للمقرضين ولن تعيد لإيطاليا النمو والقدرة التنافسية.
ويبدو أنه لا يوجد حل آني لهذه المشكلة - من وجهة نظر رأسمالية - سوى بالخروج من أسر اليورو وتفكيك الدول المنضوية تحت لوائه، أو إقامة اتحاد مالي سياسي حقيقي للأوروبيين وهو أمر يصعب تطبيقه.
وقد أظهر ساركوزي ندماً على دخول اليونان لمنطقة اليورو فيقول: "إن دخول اليونان منطقة اليورو بالخطأ عام 2001 وأنها لم تكن جاهزة حينئذ وأنها انضمت إلى المنطقة ببيانات اقتصادية غير واضحة"، في حين قال برلسكوني ملقياً باللائمة على عملة اليورو: "إن العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) لم تقنع أحداً في إيطاليا فهي نقد غريب لأنه ينتمي للعديد من البلدان التي ليس لها سياسة موحدة ولا مصرف ضامن"
وبخصوص ايطاليا وهي من الدول الصناعية الكبرى يقول بعض الخبراء - وقولهم فيه شيء من الصحة - :"صحيح أن إيطاليا أكبر من أن تنهار ولكنها أيضاً أكبر من أن تنقذ"، فمشكلتها الجوهرية تتمثل في:
1)  عجز ضخم في الميزان التجاري.
2)  انعدام التنافسية.
3)  تراجع في الدخل القومي الإجمالي.
4)  ركود في إنتاجها الاقتصادي.
وعلقّ المستشار الاقتصادي للحكومة الفرنسية جان بيانس على مشكلة الديون بالقول: "إن أزمة الديون اليونانية تعمق القلق من تفكك منطقة اليورو"، وأضاف متناولاً المشكلة في عموم الدول الأوروبية قائلاً:" هناك ثلاثة مؤشرات تدعم هذه المخاوف:
1-  ان المؤسسات المالية الأوروبية التي تتمتع بوضع مالي جيد أصبحت تفضل منذ تموز الماضي إيداع أموالها في البنك المركزي الأوروبي بدلاً من إقراضها للمصارف التجارية وهو عمل شبيه بما حدث في أزمة 2007، 2008م.
2-  ان كون معدلات الفائدة التي تتقاضاها المصارف على الأموال التي تقدمها للمقترضين في دول جنوب أوروبا أعلى منها في نظيراتها بشمال القارة قد عمّق وعقّد أزمة تلك الاقتصاديات المأزومة، وزاد في تشظي السوق الأوروبية التي يفترض أنها موحدة.
3- ان المستثمرين الدوليين لم يعودوا ينظرون إلى السندات الحكومية في دول أوروبا الجنوبية بنفس الثقة التي يتعاملون بها مع السندات الحكومية في دول شمال القارة.
لقد لمح ساركوزي في خطاب ألقاه في مدينة ستراسبورغ الى تقسيم منطقة اليورو الى واحدة غنية واخرى فقيرة فقال: "إن أوروبا يجب أن تمشي وفقاً لسرعتين وهذا هو السبيل الوحيد للمضي قدماً لا سيما في ظل احتمال انضمام المزيد من الدول إلى الاتحاد الأوروبي".

إنّه نظراً لعمق الأزمة وفداحة الأضرار الناشئة عنها فقد استنجدت الدول الأوروبية بالصين نظراً لتمتعها باحتياطي كبير من النقد الأجنبي يبلغ 3,2 تريليون دولار فاتصل ساركوزي بهوجينتاو طالباً المساعدة  فلم يستجب له فتساءل ساركوزي مستنكراً: "لماذا لا يثق الصينيون في منطقة اليورو ولا يودعوا حصة من فوائضهم في اعتماداتنا المالية أو مصارفنا، فهل يفضلون أن يودعوها فقط في الولايات المتحدة؟!"، علماً بأنّ الصين تمتلك من السندات الأمريكية حوالي 1،14تريليون دولار فضلاً عن ما يزيد عن تريليون دولار من الأسهم الأمريكية، وأمّا احتياطاتها من العملات الصعبة ففيها حوالي 3،2تريليون دولار أمريكي، اي ان مجموع ما تمتلكه الصين من دولارات في ودائعها يزيد عن خمسة تريليونات دولار.
وزار كلاوس ريفلينغ مدير الصندوق الأوروبي للاستقرار المالي الصين محاولاً إقناعها بالاستثمار في الصندوق في إطار خطة الإنقاذ الأوروبية، لكن الصين طلبت ثمنا باهظا لقاء ذلك وهو منحها صلاحيات كبيرة في صندوق النقد تقارب الصلاحيات الأمريكية، وطالبت الأوروبيين بوضع خطة عملية وواضحة لضخ الاستثمارات في صندوق الاستثمار الأوروبي.
قال رئيس مجلس إدارة الصندوق السيادي الصيني جين ليغون:"إذا ما نظرت إلى المشكلات التي تحدث في أوروبا فإنها ناجمة عن تراكم مشكلات مجتمع الرفاه المهترئ. قوانين العمل تحض على الكسل والخمول لا على العمل والجد".
واستنجدت أوروبا أيضاً بجميع القوى الكبرى الأخرى فرفضت أمريكا المساهمة بحجة أنها في وضع اقتصادي سيئ، وقد ذكرت أرقام الخزانة الأمريكية أن الولايات المتحدة سجّلت في منتصف اكتوبر الماضي 15.033تريليون دولار ديناً عاماً بعد أن كان في العام 2001 يبلغ 5.7 تريليون دولار فقط.
وتحدث المرشحان الجمهوريان في مناظرة بينهما أجريت في ميتشغان حول مسألة مساعدة أوروبا فقال ميت رومني: "إنه ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يعتني بنفسه وأن يتعاون أعضاؤه فيما بينهم وأن أمريكا ليس عليها التدخل لمحاولة إنقاذ البنوك والحكومات الأوروبية".
وأما هيرمان كين فقال: "إنه ليس أمام الولايات المتحدة الكثير لتقدمه لمساعدة إيطاليا لأنها تخطت نقطة العودة".
ورفضت بريطانيا كذلك المساهمة في صندوق الاستقرار الأوروبي فقال رئيس الوزراء كميرون بصراحة: "إن بريطانيا لن تسهم في صندوق الاستقرار المالي لمنطقة اليورو ولن تزيد مساهمتها لصندوق النقد ليقدم قروض إنقاذ لدول أوروبا المتعثرة". وقد حمّلت بريطانيا اليورو المسؤولية فقال وليم هيج وزير خارجيتها متشفياً:" اليورو سيصبح لحظة تاريخية للحماقة التاريخية"، وشبّه منطقة اليورو بِ: "مبنى يحترق من دون أبواب للخروج".
وتلكأت كل من روسيا والبرازيل والهند وغيرها من الدول الصاعدة عن المساعدة باستثناء مساعدات من قطر وبعض الدول الخليجية، فلم تقدم أي دولة أية مساعدات. والمساعدات القطرية والخليجية ليست ذات أهمية فمثلاً:
**  ضخت قطر 500 مليون دولار في صفقة اندماج مصرفين يونانيين.
**  وقامت شركة مساهمة مملوكة لقطر ستشتري بنك لوكسمبرغ بقيمة مليار يورو.
**  وتجري مفاوضات بين مستثمرين يمثلون الأسرة الحاكمة في قطر لشراء ديكسيا في لوكسمبرغ.
**  وصندوق الاستثمار القطري الذي يبلغ حجمه 70 مليار دولار استحوذ على حصص في عدة شركات اوروبية. ولكن هذه الاستثمارات المحدودة لا تكفي ولا تنفع في حل مشاكل تحتاج الى تريليونات الدولارات.

ولو أردنا أن نشخص المشكلة باختصار لقلنا ان تشخيص المشكلة يمكن تحديدها بالنقاط الست التالية:
(1)  انّ انفصال الوحدة النقدية في منطقة اليورو عن الوحدة السياسية هو الذي أدّى إلى هذا الفشل الاقتصادي المحتوم وذلك لعدم وجود مرجعية واحدة وقيادة واحدة لسبع عشرة دولة.
(2)  عدم وجود تجانس بين الدول المشتركة في منطقة اليورو حيث لا ينسجم وجود دول كاليونان والبرتغال وإيرلندا الأقرب إلى الدول النامية مع دول غنية كألمانية وفرنسا وهولندا وبلجيكا وهو ما حدا بالرئيس الفرنسي باقتراح وجود مسارين داخل منطقة اليورو نفسها بحيث يكون هناك مجموعتين تسيران بسرعتين مختلفتين.
(3)  إن تركيز الحل على المعالجات النقدية لوحدها لا يكفي لمعالجة أصل المشكلة والتي هي في الأساس مشكلة سياسية واقتصادية وليس نقدية فحسب.
(4)  إن أوروبا في الحقيقة تعيش بأعلى من مستواها فدخلها أقل بكثير من نفقاتها فهي لم تعترف بعد بتقدم قوى عالمية جديدة تزاحمها وتقتطع جزءاً كبيراً من حصتها العالمية كالصين والهند والبرازيل وغيرها.
(5)  غياب الداعم الرئيسي التقليدي لأوروبا في هذه المشكلة وهو أمريكا وذلك بسبب معاناة الأخيرة من مشاكل اقتصادية حقيقية جعلها تنكفئ وتتراجع.
(6)  إن المبدأ الرأسمالي بطبيعته لا يعالج المشاكل علاجاً جذرياً وإنما يكتفي فقط بالمسكنات.
تلك هي النقاط الحقيقية لتشخيص المشكلة الأوروبية الاقتصادية.
لا شك إن مستقبل منطقة اليورو محفوف بالمخاطر، وان خروج بعض الدول من المنطقة لعله يكون مسألة وقت لأن المشكلة قد خرجت عن السيطرة وهذا ما صرح به كثيرون، وضخ الأموال لم يعد حلاً شافياً، علاوة على أن المال قد نفد ولم يعد يكفي للدول المدينة، وبالذات إيطاليا ذات الاقتصاد الكبير في منطقة اليورو والتي بلغت كلفة ديونها أرقاماً قياسية لامست فائدة سندات خزينتها لأول مرة حاجز ألـ 7% وهو أعلى رقم تصل إليه كلفة الفائدة منذ طرح عملة اليورو في العام 1999م، وهو ما حدا بالمسؤولين أن يعترفوا "بأن لا أحد يود إقراض بلد عندما تستخدم تلك البلاد القرض لتسديد فوائد ديون قروض سابقة".
يقول رئيس إدارة الأصول الثابتة في بنك غولدمان ساكس الأمريكي جيم أونيل: "إن العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) في طريقها للتلاشي نتيجة لتفاقم الأزمة وعدم تمكن الجهود التي بذلها الأوروبيون خلال العامين الماضيين من التقليل من آثارها وتداعياتها"، ويعترف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بقوله ان: "ما نمر به ما هو إلا مرحلة من أزمة عالمية" وهو ما يعني أن الأسوأ القادم لم يأت بعد.
وعلى سبيل المثال فديون إيطاليا البلغة 1,9 تريليون يورو وهو ما يعادل 120% من ناتجها الإجمالي المحلي وكان عليها توفير 30,5 مليار يورو في تشرين ثاني ( نوفمبر) الماضي وَ 22,5 مليار يورو في كانون أول (ديسمبر) الماضي للوفاء بالتزاماتها المالية، فمن يستطيع إعطائها هذه المبالغ وهي شبه مفلسة؟!! النظام المصرفي الأوروبي برمته سيلحقه التدمير إن فعل ذلك.
ولم تقتصر عدوى الديون والعجز على الدول الجنوبية للقارة الأوروبية بل انها تتهدد فرنسا نفسها فقال غريغ فوزيسي الاقتصادي ببنك جي بي مورغان تشيز في لندن:" إن أحدث الأرقام الصادرة عن اقتصادات منطقة اليورو تنبئ بدخول المنطقة في فترة من الركود وببدء الانكماش".
ورغم متانة الاقتصاد الفرنسي عند مقارنته باقتصادات دول اليورو المتعثرة كاليونان والبرتغال فإن عجز الميزانية العمومية الفرنسية يبلغ نحو 6% من إجمالي الدخل المحلي، كما أن البنوك الفرنسية تعد الأكثر تعرضا للديون في منطقة اليورو وهو ما يجعلها الأكثر خسارة جراء أزمة الديون السيادية الأوروبية.
وآخر ما توصلت إليه المانيا وفرنسا من حلول وعرضته على دول الاتحاد الاوروبي في مؤتمر بروكسل لم تساهم في حل المشكلة فاتفاق بروكسل يعطي مزيدا من السيطرة المركزية للمفوضية الاوروبية في فرض عقوبات على الدول التي لا تلتزم بسياسات التقشف للحد من الاسراف في الانفاق ولفرض المزيد من الضرائب، وهذه اجراءات لا تحل المشكلة.
وبسبب هذه المشكلة الخطيرة فقد بدأت الاستثمارات تهرب من أوروبا الى اماكن أخرى وبالذات إلى دول أمريكا اللاتينية وذكرت رويترز أنّ :"مليارات الدولارات بدأت تتدفق على أميركا اللاتينية كمقصد للاستثمار في خضم الأزمة الاقتصادية القائمة في أوروبا والولايات المتحدة. ونما الاستثمار الأجنبي المباشر في أميركا اللاتينية بنسبة 54% -وهو ما يوازي 82 مليار دولار- في النصف الأول من هذا العام. وتلقت البرازيل والمكسيك وتشيلي وكولومبيا 68 مليار دولار استثمارات في تلك الفترة".
ويقول دانييل تيتلمان رئيس وحدة دراسات التنمية في اللجنة الاقتصادية لشؤون أميركا اللاتينية والكاريبي التابعة للأمم المتحدة، إنه "ينظر إلى أميركا اللاتينية اليوم على أنها بديل جذاب للاستثمار الأجنبي المباشر، في ضوء ضعف الطلب بالدول المتقدمة".

والنتيجة كما يتوقعها مسؤولون وإعلاميون أوروبيون هي سوداوية مرعبة:
1- فرئيس المفوضية الأوروبية جوزيف مانويل باروسو يقول: "إن الاتحاد الأوروبي سيفقد مكانته الدولية إذا لم تتعاون دوله في مواجهة أزمة الديون السيادية التي تعصف بعدد من دول منطقة اليورو".
2-  وأما مديرة صندوق النقد الدولي كريستسن لاغارد فقد حذرت في 9/11/2011م في منتدى بكين الدولي المالي قائلة: "إذا لم نتصرف بشكل جماعي فإن الاقتصاد العالمي سيكون عرضة إلى الغرق في مرحلة قلق وتشاؤم وعدم الاستقرار المالي"، وتضيف فتقول: "نشعر أننا إذا لم نتحرك على نحو فعال وجريء وجماعي فإن الاقتصاد العالمي سيكون أمام مخاطر انهيار الطلب العالمي بل يمكن أن نرى أنفسنا في مواجهة ما يصفه بعض المعلقين بالعقد الضائع".
     3-  بينما المستشارة إنجيلا ميركل اعترفت ببؤس الوضع الاقتصادي في اوروبا فقالت: "إن الوضع أصبح غير سار بشأن تفاقم الأزمة داعية إلى تسريع الخطط الكفيلة بالتكامل السياسي لمواجهة التحديات الناتجة عن تفاقم الأزمة الاقتصادية"، وأضافت: "إنّ أوروبا تعيش أصعب الأوقات منذ الحرب العالمية الثانية، وإذا فشل اليورو فإنّ اليورو سيفشل".
هذه هي حقيقة الوضع الاقتصادي في منطقة اليورو كما عبّرت عنها القيادات الاوروبية الرئيسية أنفسها.