الأربعاء، 13 مارس 2013

العولمة وتأثيرها على جودة البيئة



العولمة وتأثيرها على جودة البيئة


العولمة هي نسخة مطورة من الرأسمالية ذات النكهة الأمريكية، فقد ظهرت العولمة بعيد سقوط الشيوعية في العام 1991واندثار الاتحاد السوفياتي، فاستغلت أمريكا تفردها في الموقف الدولي وطالبت دول العالم بالتوقيع على اتفاقية التجارة العالمية محولة اتفاقية جات للتعرفة الجمركية إلى منظمة دولية، لتفسح المجال أمام رؤوس الأموال والسلع والمنتجات بحرية المرور بين الأسواق العالمية بدون قيود أو سدود أو حدود في محاولة منها للهيمنة على قوى الاقتصاد العالمية.
فالعولمة اذا هي رأسمالية من حيث الفكر والأيديولوجيا، أمريكية من حيث المولد والنشأة والهوى. والفرق بين العولمة والعالمية أن العولمة تهدف إلى تحويل الشيء من حالته القطرية إلى الحالة العالمية، بمعنى إكساب الشيء الصفة العالمية مع أنه ليس بعالمي، بينما العالمية تعني أن الشيء في أصله كان عالمياً. لقد شاع في الآونة الأخيرة استخدام تعبير العولمة في كل الشؤون والعلوم والمعارف بحيث لم تسلم من تأثيره حتى العلوم الاجتماعية والإنسانية كالأدب والشعر والثقافة والسياسة... .ومن تعريفات العولمة لدى من يناصرونها أنها: "حركة اجتماعية اقتصادية سياسية تشمل المكان والزمان بحيث يبدو العالم صغيراً واحداً". فوفقاً لهذا التعريف اعتبر العالم واحداً تتداخل فيه السياسة والاقتصاد والثقافة والسلوك، ولا أهمية للحدود السياسية والانتماء الوطني أو العقائدي، ففي العولمة تنصهر كل تلك الارتباطات. ومثل هذا التعريف غير مطابق للواقع؛ لأن القيود المفروضة على سبيل المثال من قبل الدول الغنية على المهاجرين القادمين من الدول الفقيرة تزداد صرامة وقساوة يوماً بعد يوم، ولأن العنصرية التي تمارسها الدول المتقدمة ضد الدول المتخلفة والتي أدَّت إلى وقوع الكوارث البشرية والبيئية والحروب الأهلية وانتشار الأوبئة والمجاعات وفرض الحصار وبناء الجدران ومراقبة الحدود وسن قوانين منع الهجرة وما نجم عن ذلك من انتشار ظاهرة قوارب الموت وما شاكلها، كل ذلك من شأنه أن يجعل من التعريف السابق للعولمة نكتة سخيفة، فلا حصلت الحركة السياسية والاجتماعية التي تحدثوا عنها، ولا توحد العالم، ولا تعدت الحركة الزمان والمكان، ولا ذابت الانتماءات العقائدية والوطنية في خضم العولمة، ولا حصل أي شيء مما ورد في التعريف. وبالتالي فهذا التعريف وأمثاله من التعريفات التي تتحدث عن "صبغ العالم بدهان واحد وتوحيد أنشطته الثقافية والفكرية والاجتماعية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والحضارات" غير صحيحة وغير مطابقة للحقيقة. والشيء الوحيد الذي عرفته البشرية من هذه العولمة الرأسمالية الاستعمارية هو ترويج النمط الرأسمالي الإنتاجي الأمريكي على اقتصاديات العالم وذلك برفع القيود عن الأسواق والبضائع ورؤوس الأموال التي تتحكم فيها اقتصاديات الدول الرأسمالية الكبرى وفي مقدمتها أمريكا. أما التعريفات الكثيرة التي وضعوها للعولمة فيغلب عليها الدعاية والتلميع وتظهر فيها الناحية الإنشائية الكلامية وهي ما أضفت شيئاً من الغموض والإبهام على العولمة لتمييع المفهوم ولجعل التعريف فضفاضاً يلتبس على الكثيرين بقصد إبعاد الناحية الرأسمالية الاستعمارية عنه لتنطلي تلك الخدعة على الكثيرين، فيظنون أن العولمة شيء جديد مختلف عن الرأسمالية، وأنها قدر لا يُرد، وعلى جميع الشعوب القبول به والاستسلام له. وبالتدقيق في واقع العولمة الرأسمالية نجد أن لها أربعة أرجل اخطبوطية وهي:
(1)  تحرير التجارة العالمية: وتعني فتح الأسواق المحلية أمام القوى الاقتصادية الكبرى وإخضاعها لمبدأ (التنافس الحر) الذي يساوي بين القوى الكبيرة والقوية وبين القوى الصغيرة والضعيفة، وهذا يعني بكل بساطة هيمنة مطلقة للقوى الاقتصادية الكبرى على الاقتصادات الصغيرة وذلك بحجة أن الاقتصاد يجب أن يخضع لما يسمى بفكرة (اقتصاد السوق) والتي تعني رفع (الحمائية) عن الأسواق لتكريس الهيمنة الاقتصادية الاستعمارية للقوى الكبرى على أسواق الدول الضعيفة والصغيرة.
(2)  تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة:  ويعني ذلك فتح الأسواق المالية المحلية (البورصات) من غير قيود للرساميل العالمية دون أية عراقيل، وتحويل البنوك المحلية إلى بنوك شاملة بمشاركة بنوك الدول الكبرى للاستفادة من الصفقات والعمولات باستخدام التطور في آليات الاتصالات التي تسمح بتدفق رؤوس الأموال الأجنبية وحرية حركتها.
(3)  الدور المتعاظم للشركات متعددة الجنسيات:  حيث تتحكم الشركات عابرة القارات في جميع مفاصل الاقتصاد القطري بما لها من إمكانية كبيرة على استغلال الفوارق بين الدول في الموارد والقوى الاقتصادية المختلفة، وبما تملك من مزايا جغرافية تمنحها المرونة في السيطرة على المرافق الاقتصادية للدول الصغيرة والضعيفة بالتعاون مع الرأسماليين المحليين، وبفرض تشريعات وقوانين تنتهك الحمائية التي كان معمولاً بها لحماية الاقتصاد المحلي، لذلك كان ضرورياً أن تقوم الشركات الكبرى بإعادة هيكلة صناعاتها الضخمة مستغلة بذلك الأيدي العاملة الرخيصة في إنتاج سلعها، حيث قامت بفتح فروع لها في كثير من الدول وهو الأمر الذي زاد في ربحها وقضى على الصناعات المحلية قضاءً شبه تام.فطائرة بوينغ الأمريكية777 على سبيل المثال أصبحت تصنع في 12 دولة بعد أن كانت تُصنع فقط في دولة واحدة. وكل الشركات الكبرى الأخرى قامت بفتح مصانع لها في دول كثيرة لتجني الأرباح الباهظة، ولتستغل الأيدي العاملة الرخيصة ولتهيمن على حقل الصناعة المحلي في الدول الصغيرة والفقيرة.
(4)  ثورة المعلومات والتقدم التكنولوجي:  لقد تم استغلال تكنولوجيا المعلومات لتحقيق هدف تسهيل حركة الأموال والسلع والأفراد الممثلين للمصالح الاقتصادية للدول والشركات الاستعمارية. هذه هي الأرجل الأخطبوطية الأربعة للعولمة التي بواسطتها تتم السيطرة على الاقتصاد العالمي. فالعولمة في واقعها إذاً تعني إيصال النمط الرأسمالي الإنتاجي في التسويق والتداول والتوزيع والتمويل والتجارة من مستوى القطرية والمحلية إلى مستوى العالمية، وهي حركة رؤوس الأموال الأجنبية بين الأسواق المحلية لجني الأرباح واحتكارها لصالح القوى الاقتصادية الرأسمالية الكبرى بحيث أن الاقتصادات القوية والسريعة تستحوذ على الاقتصادات الفقيرة والبطيئة.
إن العولمة بهذه الصفة هي استعمار جديد وسريع للسيطرة على الأسواق والمواد الخام والأيدي العاملة الرخيصة باستخدام تكنولوجيا المعلومات، وبالاستعانة بفرض تشريعات ترفع القيود المحلية أمام انسياب الرساميل الأجنبية. وهي بهذه المعاني أصبحت تمثل أشرس أنواع الاستعمار وأعلى مراتب الرأسمالية، ومنذ ظهورها في العقدين الأخيرين فتكت في البشرية آفات المرض والجوع والفقر والأمية والهجرات والحروب والاستغلال والعنصرية، وانعدمت جميع الخدمات الضرورية، وفقدت المياه النقية للشرب في معظم البلدان وتلوثت، وتحولت شعوب كثيرة بفعل العولمة إلى شعوب مستجدية لقوتها اليومي، وأصبحت عالة على منظمات الإغاثة الإنسانية التي تلقي لها بفضلات الدول الغنية، وأصبحت جودة الحياة لمعظم الشعوب في أدنى مستوياتها.
هذه هي الرأسمالية الفاسدة التي نخرها السوس بكل ما فيها من جشع وطمع واستغلال، وتدمير للبيئة والحياة، وهذه هي معالجاتها الظالمة للأزمات الدورية التي نتجت عنها.
الرأسمالية سبب نشوء كل الأزمات الاقتصادية في العالم ومنها أزمة البيئة
إن النظام الرأسمالي المهيمن على الأنظمة الاقتصادية في العالم هو الذي يتسبب في اندلاع الأزمات المالية والاقتصادية المتعاقبة في جميع أرجاء المعمورة بما فيها الأزمة العالمية الأخيرة والتي ضربت جميع دول العالم وألحقت بها أفدح الخسائر، فما إن تهدأ أزمة حتى تنفجر أزمة أشد منها عنفاً ودماراً، حتى أصبح اندلاع الأزمات الاقتصادية في العالم هو الأصل وهو الأمر الثابت والمشاهد بشكل دائمي، بينما بات الاستقرار المالي والاقتصادي هو الاستثناء.
إن حقيقة المشكلة تكمن في النظام الرأسمالي نفسه، فهذا النظام هو أصل الداء وشر البلاء؛ لأن الأسس التي تنبني عليه الحياة الاقتصادية هي أسس مدمرة بطبيعتها. فطغيان الملكية الفردية في الرأسمالية على ملكية الدولة وعلى الملكية العامة قد أحال الدولة والمجتمع وغالبية القوى الاقتصادية الموجودة في الدول الرأسمالية إلى رهائن تتحكم بهم حفنة قليلة من الأثرياء الجشعين والاحتكاريين والمتخمين لا تتجاوز نسبتها في المجتمع العشرة بالمائة بمعظم ثروة البلد الإجمالية.
وليس من نافلة القول أن ركائز النظام الرأسمالي الاقتصادي قد تم إرساؤها منذ آدم سميث الأب الأول للرأسمالية من أجل خدمة طبقة متنفذة من الأثرياء الذين يتحكمون في مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية بسبب حيازتهم لغالبية الثروة في الدول الرأسمالية التي تحولت إلى مال سياسي يُسير العلاقات الدولية ويؤثر في الموقف الدولي.
وأهم هذه الركائز:
1)  النظام الربوي والمصارف الربوية:  وهذا النظام هو مصدر لا ينضب لتجميع الأموال والثروات بأيدي المرابين الكبار
2)  الأسواق المالية والشركات المساهمة:  وهي المصدر الثاني الذي يعتمد عليه ملاك الأسهم الكبار في تجميع أكبر الثروات بخبطات سريعة من خلال المضاربات التي تشبه إلى حد كبير ألعاب القمار والتي غالباً ما تُبدد مدخرات الفقراء ومتوسطي الحال.
3)  العملات الورقية الإلزامية غير المغطاة بالذهب أو الفضة والتي لا تعتمد إلا على قوة الإبراء القانونية:  وهذا الوضع للعملات الإلزامية الهشة أدّى إلى جعل الدولار الأمريكي عملة رئيسية للعالم فإذا انخفض سعر صرف الدولار انخفضت معه أسعار صرف معظم عملات العالم.
إن أمريكا بفعل هيمنة دولارها على عملات العالم أصبحت تتحكم في القوة الشرائية للمواطنين من سائر دول العالم. والنتيجة المأساوية التي آلت إليه أوضاع العملات المحلية بسبب تخفيض سعر الدولار هي أنه من بين كل عشرة دولارات تطبع هناك دولار واحد فقط له قيمة حقيقية بينما الدولارات التسع الأخرى هي مجرد أوراق لا تساوي قيمتها ثمن الورق الذي استخدم في طباعتها.
وما زاد الطين بلة أن الرأسمالية تم تحويلها في السنوات الأخيرة إلى نظام عالمي جبري تحت اسم العولمة وهو ما أدّى إلى زيادة في الفتك الاقتصادي العالمي وهو ما أدّى بالضرورة إلى إصابة الاقتصاديات الضعيفة بضربات قاتلة أدَّت إلى انتشار المزيد من المجاعات والفقر المدقع وما نجم عن ذلك من بؤس وشقاء.
أما الأغنياء في الدول الرأسمالية فلم يتأثروا بالأزمة الاقتصادية العالمية التي اجتاحت العالم منذ العام 2008م بل إنهم ازدادوا غنى على غناهم، وقد أثبتت الإحصائيات الأخيرة أن الأغنياء في بريطانيا والدول الرأسمالية الكبرى ازدادوا ثراءً فعدد المليارديرات قد ازداد في هذه الدول بينما غالبية السكان في هذه الدول قد هبط مستواها إلى الحد الأدنى من المستوى الاقتصادي فيها. وبالرغم من هذا الهبوط الحاد لمستوى العامة إلا أن الحكام ما زالوا من الطبقة الغنية المنتفعة.
وعلى سبيل المثال فسبعة عشر وزيراً من أصل ثلاثة وعشرين وزيراً في بريطانيا هم من أصحاب الملايين وهو ما يؤكد أن الديمقراطية الزائفة في الغرب والتي هي انعكاس للرأسمالية الفاسدة لا توصل للحكم إلا من كانوا من أصحاب الثروات أو من خُدّامهم.
وحتى علاج الأزمات الاقتصادية في الدول الرأسمالية إنما كان على حساب الفقراء ومحدودي الدخل، فما يُسمى بخطط التحفيز ما هي في واقعها سوى ضخ لأموال الشعب أو ما يُسمى بدافعي الضرائب لملء المصارف المفلسة بالأموال ليبقى المرابون لديهم من الأموال ما يمكنهم من الاستمرار في العمليات الربوية لمص دماء الفقراء واستغلال عرقهم وجهودهم.
أما نظرة الإسلام للاقتصاد فهي نابعة من الكتاب والسنة وما أرشدا إليه من إجماع صحابة وقياس. وهي نظرة لا يمكن أن تؤدي إلى ظهور أية أزمات اقتصادية أو مالية لأنها بكل بساطة وضعت نظاماً ربانياً يحول دون سيطرة أي طبقة في المجتمع على سائر الناس. ومن أهم الأسس الشرعية التي أرساها النظام الاقتصادي العالمي في الدولة الإسلامية هي:
1)  اعتماد الذهب والفضة كغطاء دائم وثابت للعملات:  وهو ما من شأنه أن يمنع حدوث أي انهيارات للعملة لأنه لا يسمح بتعريضها للانكشاف مطلقاً، وهو ما من شأنه إيجاد الاستقرار النقدي الدائم.
قال تعالى: )وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (، وقال عليه الصلاة والسلام: "في كل عشرين ديناراً نصف دينار وفي كل مائتي درهم خمسة دراهم"، وقال: "وعلى أهل الذهب ألف دينار".
2)  إلغاء النظام الربوي وإبطال جميع الفوائد الربوية التي تم إبرامها قبل قيام الدولة:
قال تعالى: )الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا(، وقال: )فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ(.
وعن أبي بكرة قال: "نهى النبي r عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا"(أخرجه البخاري ومسلم)
فالربا هو شر الأموال وهو أس البلاء وأصل الداء. وبهذا الإلغاء يتم القضاء على مراكز القوة الربوية وعلى تأثير المال السياسي في الدولة.
3)  إغلاق الأسواق المالية وتحويل الشركات المساهمة إلى شركات إسلامية تعتمد على البدن (الجهد) في تنمية المال.
أي أن لا يتم إنشاء شركة إلا بوجود شريك البدن الحقيقي الذي يتحمل مسؤولية تشغيل المال وتكون يده يد أمانة. روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي r قال: "إن الله يقول أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما".
وبتطبيق أحكام الشراكة في الإسلام ومنع وجود أسواق الأسهم والسندات نتخلص من تحول الأموال إلى أرقام وبيانات لا رصيد لها في الواقع وهذا يجعل الناس تشتغل بالأموال الحقيقية في اقتصاد حقيقي ويتم القضاء على الاقتصاد الطفيلي وعلى الاقتصاد الوهمي وعلى آفة المضاربات الشبيهة بالقمار التي تحقق الأرباح الخيالية للأثرياء الذين يجنون الأموال دون بذل أي مجهود.
4)  إلغاء حرية الأفراد للتملك وتقييد حيازة الأموال بالضوابط الشرعية التي تمنع الأفراد من الاستغلال والاحتكار وتمنعهم من الاعتداء على الملكية العامة وعلى ملكية الدولة.
فيمنع الأفراد من تملك المنافع العامة كما يمنعوا من حيازة أملاك الدولة. قال r: "المسلمون شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار"
إن تطبيق هذه الأسس الأربعة لوحدها كفيل بإعادة توزيع الثروة توزيعاً عادلاً في المجتمع فلا يبغي أحد على أحد ولا تتسلط حفنة من الأثرياء على مقدرات المجتمع.
كما أن تطبيق هذه الأسس يضمن عدم وقوع هزات وأزمات اقتصادية في العالم.
ان نشوب الأزمة المالية الاقتصادية في العالم منذ عامين، لم تكن وليدة إجراءات مصرفية ائتمانية خاطئة كما يُروج البعض، ولا كانت بسبب تعاملات في الأسواق المالية تغلبت فيها المضاربات الاحتكارية في بيع الأوراق المالية كما يزعم البعض الآخر، بل إن نشوب هذه الأزمة كان بسبب فساد النظام الرأسمالي باعتباره مبدأ ونظام حياة، وذلك لأن الأسس التي يقوم عليها هذا النظام من شأنها أن توجد - وبشكل تلقائي - أزمات اقتصادية باستمرار، وبشكل دوري، وأحياناً منتظم.
ومن أهم هذه الأسس المدمرة للحياة الاقتصادية والبيئية في الرأسمالية إطلاق حرية التملك وحيازة الأفراد للأموال من دون تدخل من الدولة، ومن دون وضع أية قيود أو ضوابط لكبح تلك الحرية، وهو ما أدّى بالضرورة إلى تمكين قلة من الأفراد من السيطرة على اقتصاد الدولة، والتحكم في جميع مفاصلها الحيوية، وذلك تحت ذرائع حرية اقتصاد السوق.
إن طغيان الملكية الفردية في النظام الرأسمالي على الملكية العامة وعلى ملكية الدولة نفسها قد حوَّل الدولة والمجتمع وغالبية القوى الاقتصادية الموجودة في البلاد إلى رهائن بأيدي حفنة قليلة من الأثرياء المتخمين الجشعين الاحتكاريين، الذين مكّنهم ذلك الطغيان من الاستحواذ على أكثر من 90% من الثروة الإجمالية في الدولة، بينما لا يتجاوز عددهم العشرة بالمائة.
وما يساعد هذه الحفنة من تكريس الأموال في المجتمعات الرأسمالية على حساب الغالبية العظمى من المواطنين وجود ثلاثة أمور في النظام الرأسمالي تعتبر من الركائز الأساسية في المبدأ، وتمثل المصادر الحقيقية لجمع الأفراد للثروة وهي:
(1)  النظام الربوي والمصارف الربوية.
(2)  الشركات المساهمة الرأسمالية والأسواق المالية.
(3)  العملات الورقية الإلزامية.
فهذه الثلاثة ركائز هي أفضل من يخدم أولئك الأفراد في تكديس الملايين بشكل دائمي.
أما المصارف الربوية التي تنشئها مجموعات من الأفراد الأثرياء فتقوم بتوفير الأموال الدائمة الكثيرة لهم من خلال تحصيل فوائد القروض التي لا يستطيع أي مواطن القيام بأي عمل في البلدان الرأسمالية إلا من خلال التعامل مع فتح الاعتماد وأخذ القروض الربوية، وبالتالي فالفائدة الربوية الالزامية التي يدفعها المقترض للمصرف تذهب أوتوماتيكياً إلى جيوب أصحاب الثروات الكبار من أعضاء هذه الحفنة التي تسيطر على المصارف، وبذلك تكون هذه الفوائد الربوية مصدراً ممتازاً ودائمياً لجمع الأموال من دون أي مجهود.
وأما الشركات المساهمة الرأسمالية فهي المصدر الثاني من مصادر تجميع الأفراد للثروات الضخمة حيث يقوم هؤلاء بتأسيس الشركات المساهمة برؤوس أموال متواضعة نسبياً ثم يتم تضخيمها أضعافاً مضاعفة بمشاركة أعداد هائلة من المساهمين الفقراء أو من ذوي الدخل المحدود في تلك الشركات، وهو الأمر الذي يوجد تجميع مدهش للثروة بأيدي المؤسسين الذين يستحوذون على هذه الأموال، فتزيد أرباحهم زيادة غير طبيعية من خلال التحكم بمدخرات هؤلاء الفقراء ومتوسطي الحال، وبالتالي يشكّلون ثروة ضخمة تتجمع في شركاتهم لم يكونوا يحلموا بإيجادها بمثل هذه السهولة.
فإذا ربحت الشركات – وغالباً ما تربح في الأحوال الطبيعية - تزداد ثرواتهم بينما لم يحصل غالبية المساهمين إلا على الفتات، وأما إذا خسرت الشركات في حالات معينة فالمساهمين الصغار هم من يخسروا معظم ثرواتهم بينما يحافظ مؤسسو الشركات الأثرياء على رؤوس أموالهم كاملة غير منقوصة.
وأما المضاربات التي تجري في الأسواق المالية فإنها تُمكن المتلاعبين فيها كما تمكن الدول الغنية من تشغيل أموال غير موجودة في الواقع، وإنما هي مجرد بيانات تتحرك على شاشات العرض الإلكترونية، فإذا ما حصل انكشاف لحقيقة الأوضاع المالية لأصول الأسهم والأوراق المالية نتيجة وجود تضخم كبير في أسواق الأموال بما لا يتناسب مع الأصول الموجودة على أرض الواقع، ويتسبب ذلك في حدوث فقاعات يتم التخلص من خلالها من الفوائض المالية الوهمية، غالباً ما يذهب ضحيتها محدودي الدخل، فتطير مدخراتهم، وتتبخر في الهواء، بينما يبقى أصحاب الأموال الكبيرة في مأمن عن ضياع ثرواتهم.
وأما العملات الورقية الإلزامية فإن هبوطها وارتفاعها بشكل طبيعي الناتج عن ضعف اقتصاديات الدول صاحبة العملات، أو الناتج عن تلاعب الدول في أسعار عملاتها يؤدي وبشكل تلقائي إلى حدوث زيادة في ثروات الأفراد العليمين بتغيير أسعار صرف العملات، وهؤلاء غالباً ما يكونون من الأثرياء الذين يستطيعون معرفة اتجاه الحكومة في تخفيض أو رفع أسعار العملة، ويكون عندهم من المتخصصين أو من النافذين في الدولة بما يؤهلهم لمعرفة تلك التغيرات في سعر العملة، وبذلك تتجمع الثروة للأفراد الأثرياء عن هذا الطريق، وبالمقابل يخسر غالبية الفقراء أو من لديهم مدخرات بسيطة الكثير من مدخراتهم في حالة انخفاض سعر العملة انخفاضاً ملموساً.
إن الأزمة المالية الاقتصادية العالمية ما نشأت في الواقع إلا بسبب هذه الركائز الثلاثة للنظام الرأسمالي، ولكن الذي جعل هذه الأزمة تتميز عن غيرها من الأزمات العادية الدورية التي تنشأ عن النظام الرأسمالي هو تأثير العولمة وتشابك الاقتصادات المحلية مع بعضها البعض لتشكل اقتصاداً عالمياً شبه موحد وليشكل السوق الناشئ عنها سوقاً واحداً كبيراً.
فهذه العولمة هي التي جعلت الأزمة تفتك أكثر في اقتصاديات معظم دول العالم، وهي التي ضربت الأسواق العالمية، وأوجدت البطالة غير المسبوقة في معظم الاقتصادات الكبيرة.
فالعولمة كانت بمثابة الأوكسجين الذي ساعد الحريق الاقتصادي على الانتشار وزيادة اللهيب، لذلك كانت الأزمة الحالية بخلاف أزمات كثيرة تمتاز بالشمول والامتداد والمفاجأة.
ولم تجد الدول الرأسمالية من حل لهذه الأزمة المدمرة التي بدّدت غالبية المدخرات التي يملكها محدودو الدخل سوى بضخ الأموال العامة في المؤسسات والمصارف المنهارة تحت اسم خطط التحفيز لتبقي على وجود نظام المصارف الربوية التي توفر للأثرياء أفضل مصدر للثروة.
فهذا العلاج كان علاجاً في منتهى الظلم والسوء، إذ هو ساعد الأغنياء على الحفاظ على أموالهم بضخ الأموال للمؤسسات المالية التي يمتلكونها من الأموال العامة أي من أموال الفقراء ومحدودي الدخل.
فغالبية الناس قد فقدت مدخراتها في هذه الأزمة بينما كبار الأثرياء هم فقط الذين حافظوا على ثرواتهم كما هي، بل ربما زادت قليلاً.
إن خطط التحفيز هي في الواقع خطط لمعالجة وضع المؤسسات التي يمتلكها الأغنياء بأموال الفقراء على مستوى الأفراد، وهي معالجة لوضع الدول الغنية على حساب الدول الفقيرة على مستوى الدول.
فما زال صندوق النقد الدولي يتحكم في سياسات الدول الاقتصادية والنقدية ويضع الوصفات التي تبقي غالبية الدول في حالة تبعية لحفنة من الدول الغنية.
وما زال البنك العالمي يقوم بدور المرابي الأكبر لغالبية دول العالم وهو ما يجعلها في حالة دائمة من المديونية التي لا تنتهي منها ما دامت تتعامل مع هذا البنك.
إن هذا الحل الرأسمالي للأزمة الاقتصادية العالمية هو حل ترقيعي يؤدي إلى إطالة عمر النظام الرأسمالي وإطالة عمر الاحتكار والاستغلال والظلم، ويؤدي بالتالي إلى زيادة إفقار البشر وتجويعهم.
فهل من العدل أن تتحكم مجموعة من الدول لا يزيد عددها عن العشرة في مصير أكثر من 180 دولة فقيرة؟ وهل من العدل أن يبقى عشرة بالمائة من السكان يملكون من الثروات في كل بلد أكثر من 90% من الثروة؟
هذه هي الرأسمالية بكل وحشيتها وظلمها، وهذه هي حلولها الظالمة للمشاكل الناتجة عنها!!
فمعالجاتها لا غاية لها سوى إطالة عمرها والتكيف مع الواقع بكل تبدلاته وتحولاته، فالمهم في هذه المعالجات والحلول هو عدم سقوطها وترقيع عوراتها وعيوبها.
أما النظرة الإسلامية للأزمات الاقتصادية العالمية الناتجة عن الرأسمالية المتداعية، والنظرة الإسلامية لكيفية الحل فهي ببساطة تقوم على عدة أسس وإجراءات شرعية أرساها النظام الاقتصادي الإسلامي وهي:
(1)  اعتماد الذهب والفضة كغطاء دائم للعملة وهذا من شأنه منع وجود أي تغير في أسعار الصرف يؤثر على الوضع الاقتصادي للدول وللأفراد تأثيراً سلبياً غير ناتج عن حقيقة قيمة العملة.
(2)  تقييد ملكية الأفراد وحصرها في الأملاك الخاصة والحفاظ على الأموال العامة وأموال الدولة بأيدي الدولة وإبعادها عن سياسات الخصخصة الرأسمالية التي يتسلط فيها الأفراد على ممتلكات الأمة والمجتمع.
(3)  منع الربا والمصارف الربوية منعاً قطعياً لأنه أس البلاء وأصل الداء.
(4)  تحويل الشركات المساهمة إلى شركات إسلامية يكون للبدن [الجهد] من قبل الشريك الدور الأكبر في عمل الشركة وبذلك نتخلص من استحواذ الأفراد على أموال العامة من دون بذلهم لمجهودات حقيقية.
(5)  إلغاء الأسواق المالية التي تتحول فيها الأموال إلى أرقام وبيانات لا رصيد لها في الواقع، ويؤدي ذلك إلى إشتغال الناس بالأموال الحقيقية في اقتصاد حقيقي.
وبهذه الإجراءات المحددة التي قرَّرها الإسلام ستتولى دولة الخلافة الإسلامية القادمة قريباً بإذنه تعالى تطبيقها، ومعالجة المشاكل الاقتصادية الناشئة عن النظام الرأسمالي، وبهذه الإجراءات سيُقضى على الرأسمالية كمبدأ فاسد وستنتهي البشرية من شرورها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق